تحدثنا في المقالة السابقة عن أن الخير الذي يُزرع مع إنسان ينفع كثيرين؛ فما زرعته أم «آبراهام لنكولن» حصد منه شعب بأكمله؛ كما أن صنع الخير لا يتوقف إزاء الشر الصادر من البعض، بل يتجاوزه محولًا إياه إلي خير. وعمَل الخير ينطلق من أعماق الإنسان دون أن يبحث عن مبررات لصنعه؛ إنه كالضوء الذي ينطلق من داخل أعماق الإنسان فلا تستطيع ظلمة العالم كله أن تخفيه.
حينما تصنع الخير، ثِق أنه يؤثر لا في الشخص الذي يستقبله فقط بل يظل عالقًا في أذهان من يراه. من منا حين يتذكر أعمال الخير لا يقفز إلي ذهنه منظر شخص وهو ممسك بيد عجوز أو طفل يساعده في المسير أو في عبور الطريق. إن الإنسان يتعلم صنع الخير حين يراه في حياة من حوله، وهم يسرعون بممارسته فرحين.
قصة…
أتذكر إحدي القِصص الواقعية التي ذُكرت عن شخص كان يُلقي كلمة في أحد الاجتماعات عن الخير، ثم روي قصة عن أحد الشباب وقد اعتبره بطلًا إذ استطاع بمفرده أن ينقذ أكثر من عشرين شخصًا تعرضوا للموت عندما بدأت السفينة في الغرق! بذل الشاب جَهدًا عظيمًا لينقذهم حتي إنه انهار جسديًّا فاقد الوعي. وهنا توقف المتحدث قليلًا، ثم تابع: لا أستطيع نِسْيان ذٰلك الحدث الذي لا يفارق مخيلتي لبطولة ذٰلك الشاب، فإنني من ذٰلك الحين وقد قررتُ أن أمُدّ يد المعونة دون توقف إلي من أُلاقيه في الحياة. وبعد انتهاء الكلمة، تقدم أحد الشيوخ إلي المِنصة معلنًا أنه ذٰلك الشاب الذي ذكر الرجل قصته! وهنا سأله المتحدث عن مشاعره بعد عمله البطوليّ هٰذا، فقال إنه حتي لحظات مضت كان يشعر بحزن عميق داخله لأنه لم يقدِّم إليه أحد من الذين أنقذهم أو من أقاربهم كلمة شكر واحدة، لٰكنّ الأمر اختلف تمامًا بعد سماعه تلك الكلمات إذ إنه أدرك أن الخير الذي فعله لم يذهب أدراج الريح، بل حُفر في ذهن من رآه، وكان له أثر عميق في النفوس، حتي إنه صار لهم طريق يحتذونه. إنّ عمَل الخير، وإن لم نرَ له أثرًا واضحًا، فهو لا يضيع، بل هو كطريق يمهده الإنسان ليسير فيه الآخرون.
عزيزي القارئ، إن الخير في حياة البشر هو طريق يستمر الحياة بأسرها يبدؤه منذ الصغر ويتعلم فيه بالقُِدوة أن يقدِّم يد المعونة إلي الآخرين عندما يري الخير منتشرًا بين أفراد عائلته، وجيرانه، وأقرانه في مدرسته. والخير ينبَُِع من امتلاء قلب الإنسان بالمحبة؛ لذا فأعظم الدعوات التي يمكننا أن نقدِّمها من أجل أطفالنا أن يتعلموا محبة الآخر، ومحبة أوطانهم. ومن دون شك، سيكون حصاد هٰذه المحبة هو الخير والبناء والنمو والرقِيّ. وهنا أتذكر قول الزعيم “نيلسون مانديلا”: «لا أحد يُولد يكره الآخر بسبب لَون بشرته أو خلفيته أو دينه… الناس تتعلم الكراهية… وإن كانوا قد تعلموا الكراهية، فمن الممكن أن يُعَلَّموا الحب… فالحب أقرب إلي الطبيعة الإنسانية من الكره.».
ربما لا يري أحد يدَك وهي تُسرع وتسند من يتهاوي…
ربما لا يدرك من حولك حبًّا تتردد أصداؤه في أعمال خير لإنسان…
ربما تمر بك لحظات تظن فيها أن ما تفعله لا يُجدي…
ربما تعتقد أن الأزمان مرت وطُوِيَ معها الخير…
في رحلة لا تنتهي من النسيان…
أبدًا، صديقي
فالخير أبدًا لا يموت!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ