استكمالاً للأحداث التى تلت نياحة البابا «ثيؤدوروس» الذى اعتلى سُدة الكرسيّ المَرقسيّ فى وقت خلافة «هشام بن عبدالملك»، ثم «الوليد بن يزيد»، ومن بعده «يزيد بن الوليد»، ظل الكرسيّ المَرقسيّ خاليـًا فترةً بعد نياحة الأب البطريرك؛ وذٰلك بسبب الاضطهادات التى تعرض لها الأقباط الذين منعتهم من إقامة بطريرك يتولى شُؤون الكنيسة. وكما ذكرنا سابقـًا، فإن «مِصر» امتلأت بقلق المِصريِّين وثورتهم بسبب ما وقع عليهم من ظلم شديد من «عُبيد الله بن الحَبْحاب» المعيَّن على أمر الخَراج (جمع الضرائب) آنذاك، إذ اهتم بجمع المال فقط فزاد قيمة الضرائب على المِصريِّين، فانتفضوا من أجل ظلمه وتعسفه، وشكَوه إلى الخليفة الذى أبعده عن «مِصر» وعيّن مكانه ابنه «القاسم».
بدأ عهد «القاسم» بسلام ولٰكنه لم يدُم طويلاً فقد اندفع فى سياسة العنف بعد أن غض البصر عن نصائح الخليفة له، وقد ظهرت قساوته بعد نياحة «البابا ثيؤدوروس». وقد تعرضت «مِصر» حينذاك إلى تفشى الوباء فيها، وانتشار القحط، مع مقاساة ظلم «القاسم» الذى لم يَحنُ على الشعب ولم يَرقّ لمعاناته للقحط والوباء؛ فشدد على جمع الجزية غير مشفق على من لا يقوى على دفعها بل كان يجلده أمام الشعب!! وهٰكذا لم يتمكن الأساقفة والأراخنة المفتقدون للأمان من الاجتماع لاختيار خليفة «للبابا ثيؤدوروس»، مع انشغالهم بالشعب الذى يعانى الفقر والمرض والظلم. وظل الكرسيّ المَرقسيّ شاغرًا قرابة الثلاث سنوات، إلى أن اجتمع الأساقفة وذهبوا إلى «القاسم» فى طلب انتخاب بطريرك لهم؛ وكان وقتئذ فى طريقه إلى الخليفة الذى استدعاه على عجل، فالتقَوه فى «بلبيس» ولٰكنه رفض طلبهم. فحزِن «أنبا ثيؤدوروس» أسقف بابليون، ولٰكن «أنبا مويسيس» أسقف أوسيم أخبره قائلاً: «اغفر لى يا أبى، لأنه إن عاد «القاسم» إلى «مِصر» ثانيةً، فلا يكون الله قد تحدث على فمى أنا الخاطئ». وقد تحقق هٰذا الأمر إذ استُبعد «القاسم» بالفعل مِن حكم «مِصر». وقد انتهز «الخلقدونيُّون» فرصة الاختلافات، وعقدوا مجمعـًا لهم، وأحضروا ثلاثة أشخاص لاختيار بطريرك منهم؛ فاختاروا خياطـًا يسمى «قُزمان»، وجمعوا مالاً وقدَّموه إلى «القاسم» قبل رحيله، ليأمر بإقامته بطريركـًا، فساموه مفتخرين بتقدمهم على «الأُرثوذكس».
وزاد الأمر صعوبة عندما حدث انشقاق بين كهنة «الإسكندرية» وباقى كهنة القطر المِصريّ فى أمر اختيار الأب البطريرك؛، فقد اجتمع مجمع أساقفة الكنيسة القبطية لسيامة بطريرك لهم، ومضَوا إلى الوالى الذى قال: «إن استقر رأيكم على واحد، فأرونى إياه». فتباحث الأساقفة مدة عشرة أيام، ومعهم كهنة «الإسكندرية» والأراخنة (وُجهاء الأقباط). وقد قدَّم أحد أفراد الشعب اسم أحد الأساقفة ليصبح بطريركـًا، وقال: «إن انتخاب البطريرك من حق الشعب، والرسامة من حق الأساقفة»؛ وكان رد أسقف الفيوم عليه: «لكم الحق فى أن تنتخبوا أيّ إنسان، ولٰكن إن لم يكُن صالحـًا فى نظرنا، فلا نرسُمه». وحدث خلاف شديد فى اختيار الأب البطريرك، فأحضروا معهم «أنبا مُويسيس» أسقف أوسيم الذى كان مريضـًا لا يقدر على رُكوب الدواب فأُحضر محمولاً على خشبة، كما أحضروا أيضـًا أنبا «بطرس» أسقف ترنوط. وظل الخلاف يتفاقم لعدم اتفاق الجميع على شخص واحد، حتى استقر الرأى بعد مناقشات شديدة وحادة على «القَس خائيل» من دير «أبو مقار». ثم توجهوا إلى الوالى الذى وافقهم عليه، وكتب إلى شيوخ «وادى هبيب» وكهنته بتسليمهم «القَس خائيل» ليكون بطريركـًا، إلا أن العناية الإلٰهية قد شاءت أن يلتقَوا هٰذا القَس الجليل، مع جماعة من الرهبان فى طريقهم إلى الوالى ليسألوه رفع الحَيْف (الجَور والظلم) عن الكهنة، وبصفة خاصة تلك الغرامة الثقيلة التى كانوا يدفعونها عند انتخاب الأب البطريرك. فرجعوا إلى قصر الوالى جميعـًا ومعهم «القَس خائيل»، ووافق الوالى على سيامته ليصير «البابا خائيل الأول» البطريرك السادس والأربعين على كرسيّ «مار مرقس»؛ وقد حدث بعد رسامته أن أمطرت السماء ثلاثة أيام بعد انقطاع دام عامين، فكانت تلك علامة خير لجميع الشعب وراحة لسيامة الأب البطريرك. فى ذٰلك الزمان، تولّى الخلافة بعد «يزيد بن الوليد» أخوه «إبراهيم» الذى لم يستقر الحكم له مدة طويلة من الزمان.
الخليفة «إبراهيم بن الوليد» (١٢٦-١٢٧هـ/٧٤٤م)
بُويع بالخلافة من قِبل أهل «دمَِشق» يوم أن مات أخوه «يزيد»، ولم يدُم حكمه طويلاً. وكان لـ«يزيد» ولدان أحدهما مَن هو أحق بالخلافة، إلا أنه قام باعتقالهما، ثم قتلهما. وقد كانت الدولة آنذاك تتعرض لاضطربات، فقد رفض أهل «حمص» مبايعته، فأرسل فى حصارها ليحصل على مبايعتهم بالقوة. وفى أثناء ذٰلك، كان «مروان بن مُحمد» يسعى هو أيضـًا للحصول على الخلافة؛ فأعد الجيوش ودخل «حمص» وبايعه أهلها، ثم اتجه نحو «دمَِشق» وحارب «إبراهيم» وجيوشه فى منطقة «عين الحر» هازمـًا إياها، ثم فتح «دمَِشق» حيث بايع الجميع «مروان بن مُحمد»، حتى إن «إبراهيم بن الوليد» تنازل له عن الحكم. وهٰكذا صارت مدة خلافته زُهاء ٦٩ يومـًا، إلا أن بعض المؤرخين ذكروا أنها قد امتدت إلى أربعة أشهر.
الخليفة «مروان بن مُحمد» (١٢٧-١٣٢هـ/٧٤٤-٧٥٠م)
هو آخر خلفاء الدولة الأُمَوية، وكان قبل ذٰلك حاكمـًا على «أذربيچان» وأرمينيا بعد أن ولّاه عليهما الخليفة «هشام بن عبد الملك» سنة ١١٤هـ/٧٣٢م؛ وقد قام «مروان» بفتح العديد من البلاد، ثم تولى أمر الخلافة بعد ذٰلك؛ وقد امتلأ عهده بالحُروب والفتن والكوارث فتعرضت «الشام» فى عام ١٢٧هـ/٧٤٤م لطاعون أُطلق عليه اسم «طاعون غراب» تسبب فى موت عدد كبير من أهلها. وفى عام ١٣١هـ/٧٤٩م تعرضت بلاد «الشام» إلى زَلزال مات فيه عدد كبير من البشر فيذكر المؤرخ «ابن تغرى بردى»: كانت زلازل شديدة بـ«الشام»، وأُخربت «بيت المقدس»، وأُهلكت أولاد «شداد بن أَوْس» فيمن هلك. وخرج أهل «الشام» إلى البرّية وأقاموا أربعين يومـًا على ذٰلك«. كذٰلك فى العام نفسه تعرضت بلاد «الشام« لطاعون عظيم تسبب فى موت عدد كبير من البشر، حتى قيل إنه مات فى يوم واحد وسبعون ألفـًا، وذكر «المدائنى« أن عدد الجنازات بلغت كل يوم ألف جنازة!!
فى «مِصر»، طلب واليها «حفص» إلى الخليفة »مروان» إعفاءه من الولاية، فقبل الخليفة وولّى «حسّان بن عتاهية» حكم vمصر» بدلاً منه.
«حسّان بن عتاهية بن عبد الرحمٰن» (١٢٧هـ/٧٤٥م)
ولّاه الخليفة »مروان بن مُحمد» حكم «مِصر»، وكان حينئذ فى »الشام«؛ فأرسل خطابـًا إلى «ابن النعيم« لتولى الأمور لحين قدومه إلى »مِصر«. فسلّم »حفص بن الوليد« أمور الحكم لـ«ابن نعيم« إلى أن حضر «حسّان» إلى »مِصر» وتولى حكمها. لٰكن ولاية «حسّان» لم تدُم إلا ستة عشر يومـًا!! وذٰلك بعد أن جار على المِصريِّين، وخفض رواتب الجند، فثاروا ضده وأخرجوه من »مِصر» هو و»عيسى بن أبى عطاء» القائم على أمر الخَراج، وولَّوا «حَفص بن الوليد» مكانه مرةً ثالثة. وبعد خروجه من «مِصر»، اتجه «حسّان» إلى لقاء الخليفة ساردًا له أمره مع أهلها.
«حفص بن الوليد» (١٢٧-١٢٨هـ/٧٤٥-٧٤٦م)
تولى «حفص« ولاية »مِصر» كُرهـًا مرةً ثالثة؛ وبعد شهرين من حكمه، حضر «حَنظلة بن صَفوان» من «أفريقية» («المغرب») إلى «مِصر« وسكن فى «الجيزة« حتى أصدر الخليفة «مروان بن مُحمد» أمرًا بتولى «حنظلة« حكم «مِصر». لٰكنّ المِصريِّين رفضوا تولى «حنظلة« الحكم، ومنعوه من الإقامة فى «الفسطاط» بعد أن أخرجوه من «الجيزة»، ثم حاربوه حتى هُزم، وهٰكذا استمر «حفص» فى ولايته. وقد ترك الخليفة أمر «مِصر» فترة حتى انتهاء عام ١٢٧هـ/٧٤٥م. ومع بَدء عام ١٢٨هـ/٧٤٦م، عزل الخليفة «حَفْصـًا» وولّى مكانه «حَوثرة بن سُهَيل» الذى حارب «حَفصـًا» وقتله، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الاُرثوذكسىّ