تحدثنا فى مقالة «أكان عصراً ذهبياً؟» الماضية، عن الإمبراطورية الرومانية فى زمن ميلاد «السيد المسيح»، وامتدادها فى ثلاث قارات، وسيطرتها على «البحر المتوسط»، كما تحدثنا عن الأباطرة الرومان: «أُغسطس قيصر» أول القياصرة، ثم «طِيبارْيُوس قيصر الأول»، وحُكم الملك «هيرودُس الكبير» المعيَّن من الإمبراطور الرومانى على اليهودية، واتسام ذلك العصر بالقسوة والوحشية وتعدد الآلهة والعبادات الوثنية، مع انتشار المدارس الفلسفية المتعددة التى كان لها تأثير كبير فى طبقات الشعب المتنوعة.
وفى هذه المقالة، أقدم نُبذةً عن الفلسفات والأفكار التى انتشرت فى ذلك العصر، إذ قد وصلنى تساؤل من أحد القراء بخصوصها. وكلمة «فلسفة» مشتقة من اللفظة اليونانية «فيلوسوفيا» وتعنى «محبة الحكمة».
«الفلسفة الرومانية»
تركزت أهداف «الرومان» فى تكوين إمبراطورية عظيمة، وهو ما وضع الإنجازات العسكرية والسياسية فى المرتبة الأولى لديهم، فاهتموا بالتوسعات وضم دُول لتكون تابعة للإمبراطورية. أمّا فى مجال الفلسفة والفكر، فتُعد «الفلسفة اليونانية» بمفكريها وفلاسفتها، خاصة «أفلاطون» و«أرسطو»، من أهم مصادر «الفلسفة الرومانية». مع أن موقف الرومان هو رافض للحضارة اليونانية فى بداية الأمر، فإن «اللغة اليونانية» لم تفقد مكانتها كلغة للآداب والفنون، على حين أصبحت «اللغة اللاتينية» هى لغة المعاملات والقانون. وبمرور الزمن، أدرك «الرومان» أهمية تأثير تلك الحضارة، فشرعوا يأخذون منها الفكر، خاصة فى مجال الفلسفة، فانتشرت مدارس «الفلسفة اليونانية» فى «روما»، مثلما هى فى «أثينا» قديمًا، ومنها على سبيل المثال مدرسة «السُّوفِسْطائيِّين».
إلا أن الاختلاف السياسى بين «روما» و«أثينا» كان له أثره فى تلك الفلسفات، فرفض «الرومان» بعضها، وقبلوا بعضًا آخر، ومنها مذاهب الأَبِيكُوريِّين والرُِّواقيِّين والمتشككيِّن.
«الفلسفة الرُِّواقيّة»
تأسست عام ٣٠٠ ق. م، على يد «زينون»، الذى وُلد فى «قبرص»، ثم عاش فى «أثينا» زمنًا. ويأتى اسمها نسبةً إلى الرُِّواق (بيت كالفُسطاط أو الخيمة يُحمل على عمود طويل) الذى كان يعلِّم فيه «زينون» الفلسفة فى السوق العامة، ثم تبِعه «كِليانثِس». ثم أتى بعد ذلك تلميذه «كريسيبوس» الذى وضع منظومة العقيدة ويعتبره بعض الباحثين الأب الثانى للرُِّواقية.
تؤمن هذه الفلسفة بأُلوهة الكائنات، كما ناد أصحابها بالحياة وَفقًا للطبيعة التى تحقق سعادة الإنسان، فيقول أحدهم: «كل شىء يلائمنى، إذا لاءمك أيها العالم. وما جاء فى الوقت الملائم بالنسبة إليك، فليس متقدمًا ولا متأخرًا بالنسبة إلى. وكل ما جاءتنى به فصولكِ أيتها الطبيعة: فهو تارةً عندى، كل شىء يأتى منكِ، وكل شىء فيكِ، وكل شىء يعود إليكِ». وقد اهتمت الفلسفة الرُِّواقية بقوة الإنسان العقلية باعتبارها ما يميّز البشر، وبأن وظيفة الإنسان هى «أن يستكشف فى نفسه العقل الطبيعى وأن يترجم عنه بأفعاله، أى أنْ يحيا وفق الطبيعة والعقل». ويرتبط مفهوم السعادة لدى الرُِّواقيِّين بالعقل، وتتمثل فى كبت الانفعالات العاطفية، وإخضاع الرغبات غير الخلاقية لحُكم العقل، لا فى إشباع الرغبات الإنسانية مثل غيرها من الفلسفات. وتُعد: الحكمة العملية بالنسبة إلى ما هو خير أو شر، والشجاعة، والفطنة، وضبط النفس، والعدل، هى أعظم الفضائل لدى الرُِّواقيِّين. وقد استمر تأثير الفلسفة الرُِّواقية على مدى أربعة قُرون، وكان أعظم أساتذتها: «إبِكتِيتُس»، و«سِنيكا» الفيلسوف، والإمبراطور الرومانى «ماركوس أُورِيليوس».
«الفلسفة الأَبِيكُوريّة»
تنتسب إلى الفيلسوف اليونانى «أَبيكُور» صاحب المدرسة الفلسفية التى سميت باسمه «الأَبِيكُوريّة». وُلد «أَبيكُور» فى جزيرة «ساموس»، وقد صار فى صباه تلميذًا للمعلم الأفلاطونى «بامفيلوس». وفى سن الثامنة عشْرة، ذهب إلى «أثينا» لتأدية الخدمة العسكرية. أكمل «أَبيكُور» تعلمه فى «ميتيلينى»، ثم فى «لامبَساكُوس»، قبل أن يعود إلى «أثينا» ليؤسس مدرسته الفلسفية التى أطلق عليها اسم «الحديقة» نسبةً إلى حديقته التى كان يجتمع فيها تلاميذه.
نادت الفلسفة الأَبيكُورية بأن الحياة السعيدة والمطمئنة للإنسان تكون من خلال جانبين: الأول هو الطُّمأنينة والسلام والتخلص من الخوف، والثانى هو غياب الألم. فينادى «أَبيكُور» بأن السعادة والألم هما مقياس الخير والشر، وأن الموت هو نهاية الجسد والروح ولهذا ينبغى ألا نَرهبه، وأن الآلهة لا تكافئ أو تعاقب البشر، كما أن الكون غير نهائى وأبدى. ولم يَنفِ «أَبيكُور» وجود الآلهة، ولكنه رفض دَورها فى خلق العالم إذ يعتقد أنه وُجد من خلال التقاء الذرات بالمصادفة! ورفض أيضًا فكرة الخُلود ووجود الحياة الأخرى، ودعا إلى اللذة التى اعتبرها الخير الأسمى و«غاية الحياة السعيدة» . وهناك ثمانية مفاهيم «أَبِيكُورية» تُعد هى الأساس، وهى:
■ لا تخَف من الله.
■ لا تخَف من الموت.
■ لا تخَف من الألم.
■ عِش ببساطة.
■ ابحث عن المتعة بحكمة.
■ اِعقد صداقات، وابحث عن أصدقاء، وكُن حسَن المعاملة لأصدقائك.
■ كُن مخْلصًا فى حياتك وعملك.
■ ابتعد عن الشهرة والطموح السياسى.
وقد سيطرت الفلسفة الأَبِيكُورية على مِنطَقة حوض «البحر المتوسط»، فاحتوت أنطاكية على مدرسة أَبِيكُورية فى القرن الثانى قبل الميلاد، وكذلك الإسكندرية التى تأثرت بأفكارها، فى حين ازدهرت فى «روما» فى القرن الأول قبل الميلاد حتى القرنين الأول والثانى الميلاديَّين.
«الفلسفة الشَّكِيّة البيرُّونية»
أسس الفيلسوف الشَّكِّى «أنيسديموس» مدرسته فى القرن الأول قبل الميلاد، مطْلِقًا عليها اسم «بيرُّون» الذى يُعد الأب الروحى لها، وأول فيلسوف شَكِّى بيرُّونى. جاء «بيرُّون» من مِنطقة «إِليا» بجنوب «اليونان»، وكان رسامًا، ثم تحول إلى الفلسفة بعد قراءة أعمال الفيلسوف «دِيمُقرِيطُس». وذكر بعض المؤرخين أن «بيرُّون» والفيلسوف «إنكساركوس» قد رافقا «الإسكندر الأكبر» فى حملاته الحربية فى الشرق، فأتيحت لهما فرصة الدراسة على يد الفلاسفة الهُنود العراة، والحكماء المجوس فى «بلاد فارس».
واعتبر بعضٌ أن الفلسفة الشَّكِّية محاولة للتوفيق بين الفكر «السُّفِسْطائى» الذى يجنح نحو الإنكار القاطع للمعرفة، وبين نقيضه «المنطق الأرُسطى» الذى يؤكد إثباتها. وقد قدم «بيرُّون» حُججه العشْر على ضرورة «الشك المطْلَق»، فهو يرى أن كل قضية تحتمل قولَين، ويمكن أن تتخذ المَنحَى الإيجابى والسلبى بقوة متعادلة، لذلك نادى بأنه ينبغى للإنسان أن يكف عن اتخاذ أى رأى بشأن المعرفة، لأنه لا يمكن الوُثوق بالحس أو بالعقل. وهكذا أصبح الطريق الذى يجب على الإنسان أن يسلكه فى جميع الأمور هو الامتناع عن إبداء أى رأى يقينى، ومعاملة جميع القضايا بالاحتمال والتردد. وسار تلاميذ «بيرُّون» على خُطى معلمهم، وظلت المدرسة البيرُّونية حتى أوائل القرن الثالث الميلادى.
وهكذا جاء «السيد المسيح» فى عصر يمتلئ بالأفكار الفلسفية المتضاربة والمتناقضة التى تدعو إلى ارتقاء العقل فوق أى جانب آخر من جوانب الإنسان الروحية أو النفسية، وبفلسفات تدعو إلى اللذة وإنكار وجود الله أو وجود الحياة الأبدية، وأخرى تتجه نحو الشك فى كل أمور الحياة. إضافة إلى حالة الفساد الأخلاقى فى الحياة الاجتماعية، وفى العبادات الوثنية التى تفاقمت بوحشية طُقوسها، حتى إنه كان يمارَس فى كثير من البلاد طقس تقديم الذبائح الآدمية إرضاءً للآلهة الوثنية، بكل ما تحمله من ممارسات لا أخلاقية تَشيع بالفساد فى البشر!!! أما عن…
وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركزالثقافى القبطى الأُرثوذكسى