أستأذنك، قارئى العزيز، فى التوقف قليلاً عن تسلسل مقالاتنا لنستعيد معاً ما يتعرض له المِصريون فى تاريخهم بين الماضى والحاضر. فكما حدث فى مِصر، على سبيل المثال، فى عصر الطاغيتين «نيرون» و«دقلديانوس» اللذين وقف إزاءهما المِصريون أشداء صامدين، وانتهى هذان الطاغيتان وأمثالهما، وسُطرت صفحات التاريخ بسيرة هؤلاء الشهداء السابقين والحاليين، هكذا قبل أيام، احتفل المِصريون باستشهاد 21 من أبناء وطنهم بيد الإرهاب فى ليبيا، ليُعِيد إلى الأذهان ما عانَوه، وليشد من أزرهم، وليكتُبوا تاريخاً جديداً.
معنى كلمة «شهـيـد»..
الكلمة العربية «شهيد» مشتقة من الفعل الثلاثى «شهِد»، وفى الأصل اللُّغوى، كانت دلالة على الشخص الذى لديه معلومات عن حدث شهِده فقدم هذه المعلومات وشهد بها، وفى هذا المعنى يقال «استُشهد» أى طُلبت شهادته فيما عاينه. وفعل «استشهد» يحمل أيضاً معنى اشتقاقياً فقهياً هو «سُئل الشهادة» أو «طُلب للشهادة»، والشهادة تعنى الشهادة للإيمان الذى يدين به. أمّا المعنى الاصطلاحى له، فهو يشير إلى الإنسان الذى يُقتل فى سبيل الله. وأيضاً استشهد فى سبيل كذا: أن بذل حياته تلبيةً لغاية كذا.
فى المسيحية.. أُطلقت الكلمة أولاً على تلاميذ السيد المسيح والرسل الذين جالوا فى الأرض مبشرين، ففى سفر أعمال الرسل: «… وتكونون لى شهودًا فى أورُشليم وفى كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض». ثم أُطلقت على الذين احتملوا الشدائد بسبب الإيمان قُتلوا أو لم يُقتلوا. وأخيرًا أصبحت الكلمة تصف الذين قبِلوا أن يقدِّموا حياتهم من أجل إيمانهم.
لمــــاذا المــــوت؟..
يسعى الإنسان دائماً للحياة، ويسعى فزِعاً للهروب من الموت. إلا أن ما يشُد الانتباه فى الشهداء المَسيحيِّين، أنهم يلاقون الموت كأنهم على موعد طالما انتظروه! فهم يتقدمون إليه بشجاعة وإيمان ووداعة وفرح ما يُذهل معذبيهم ومضطهديهم. وهذا أدعى إلى التساؤل: لماذا يُقبلون على الموت بهدوء واحتمال وصبر؟ لماذا لا يرتعبون فى ملاقاة الموت مثل كثيرين؟ إذ لابد من أن تكون لهم الأفكار والدوافع التى تجعلهم يفعلون هذا.
العالـــم والأبديـــــة..
لقد أدرك الشهداء أن الحياة فى هذا العالم وقتية وقصيرة جدًا فى مقابل الحياة بعد الموت، يقول يعقوب الرسول: «أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد! لأنه ما هى حياتكم؟ إنها بخار، يظهر قليلًا ثم يضمحل»، فعاشوا حياتهم غرباء مؤمنين بأنهم سيعودون يومًا إلى وطنهم السمائى، وأن أمور هذا العالم إلى زوال. وحين انتهت رحلتهم، عادوا إلى وطنهم فرحين. وهنا دائمًا تتردد فى عقلى وفكرى كلمات البابا «شنوده الثالث»: «تذكَّر دائمًا أنك غريب على الأرض، وأنك عائد إلى وطنك السماوى».
التعـب والراحــــــة..
لقد أدرك الشهداء أن الحياة على الأرض هى حياة تعب، لا تحمل فى طِياتها راحة حقيقية. إلا أنهم سعَوا فيها بكل جد واجتهاد وأمانة لأنها هبة الله لهم. فهم يُدركون تعب هذه الحياة، ولكنهم يؤدون رسالتهم فى الحياة على أفضل وجه ممكن. وحينما يوضعون أمام الموت، لا يهابونه لأنهم يُدركون أن الراحة الحقيقية والحياة الفُضلى هما فى السماء.
حـيــــاة الشهـــــداء..
حين نتعمق فى حياة الشهداء، نجد أنها حياة امتلأت بكثير من الفضائل، وجاء الاستشهاد ليكلل هذه الحياة المباركة النقية الممتلئة بتلك الفضائل، التى منها:….
الشجــاعــــــة
لقد أثبت الشهداء شجاعتهم فى ملاقاة الموت، فلم يخافوا اجتيازه، متذكرين كلمات السيد المسيح: «ولكن أقول لكم يا أحبائى: لا تخافوا من الذين يقتُلون الجسد، وبعد ذلك ليس لهم ما يفعلون أكثر. بل أُريكم ممن تخافون: خافوا من الذى بعدما يقتُل، له سلطان أن يُلقى فى جَهنم. نعم، أقول لكم: من هذا خافوا!».
الاحتمـــــال
قدَّم الشهداء مشاهد رائعةً لاحتمالهم الآلام والأتعاب بدرجة أبهرت حتى أعدائهم، فهم لم يتحدثوا عن احتمال الآلام بل كانوا هم أنفسهم نماذج له. وقد تعجب الوُلاة والحكام من تلك القدرة الفائقة على الاحتمال التى امتلكها الجميع: شيوخًا، ورجالًا ونساءً، وأطفالًا.
الـصــــــبر
استمرت اضطهادات الشهداء وآلامهم فى بعض الأحيان على مدى سنوات، يحاول فيها الطغاة إضعاف عزيمتهم واستنفاد صبرهم. لٰكنّ الأيام كانت تشدهم وتجذبهم نحو وطنهم السمائى الذى يشتهون العودة إليه. بل لقد نفِد صبر الحكام أمام صبر الشهداء، فكانوا عندما يتعبون من ثبات أحد الشهداء، يُرسلونه إلى حاكم آخر ليعذبه، وأمّا هم فكانوا يملكون صبرًا فولاذيًا لا يَلين ولا ينتهى، وقوة لا تخور.
الــوداعـــــة
إن حياة الوداعة هى جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان المَسيحى. وقد قدَّم الشهداء مشاهد عظيمة لتلك الوداعة، فلم نجدهم يتمردون أو يُثيرون الشغب، أو يقاتلون من يقتلونهم، بل كانوا يحملون فى قلبهم وداعة فائقة. وتُعد «الكتيبة الطِّيبية» التى استُشهد أفرادها جميعًا مثالًا لذلك، فقد كتبوا رسالة إلى الإمبراطور الرومانى يقولون فيها: «أيها القيصر العظيم، إننا جنودك، لكن فى الوقت نفسه عبيد الله… لسنا ثوارًا، فالأسلحة لدينا، وبها نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ونعصاك، لكننا نفضل أن نموت أبرياء، على أن نعيش ملوَّثين. ونحن على أتم الاستعداد أن نتحمل كل ما تصبه علينا من أنواع التعذيب، لأننا مَسيحيون، ونُعلن مَسيحيتنا جهارًا…».
المحبـــــــة
أمّا عن المحبة، فقد كانت لآلئ تضىء فى حياة الشهداء. فقدموا محبة إلى الجميع، وبخاصة أعداؤهم، تفوق التصور متمِّمين قول السيد المسيح: «… أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم…».
الســـــــلام
عاش الشهداء فى حياتهم متمتعين بالسلام الذى يهبه الله لهم طوالها، وقابلوا الموت بهذا السلام العظيم الذى يحتار فيه العالم! فسلام الله الموهوب منه لا يستطيع أحد أن ينتزِعه منهم. وهنا تبرُق أمام عينى كلمات البابا «كيرلس السادس»: «لا يوجد شىء تحت السماء يقدر أن يكدرنى أو يزعجنى لأنى مُحتَمٍ فى ذلك الحصن الحصين داخل الملجأ الأمين، مطمئن فى أحضان المراحم، حائز على ينبوع من التعزية». إنه مشهد لحياة الشهداء، فقد عاشوا ممتلئين سلامًا، ورحلوا يظللهم السلام الذى لا ينتزعه السيف.
لقد استشهد 21 من أبنائنا فى ليبيا، وقد رأينا صورًا وفيلمًا عنهم قبل استشهادهم، وقدمت د. «مشيرة حنفى» خبيرة علم الباراسيكولوچى تفسيرًا فقالت: «بالنظر إلى وجوه الشهداء، يتضح أنهم جميعـًا يتمتعون بدرجة عالية من الإيمان والرضا بالمقسوم، والدليل على ذلك أنهم فى أثناء جلوسهم على الأرض، وحالة الصمت الشديد التى سيطرت عليهم، كانوا يصلون ويدعون الله، وكانوا يتمتعون بالصمود الشديد والسكينة النفسية». وتُفسر: «عندما تتحد الروح الذاتية، يصل الشخص إلى أعلى درجات الإيمان، وما جعلهم يصلون إلى ذلك أنهم كانوا مُغمَضى العيون، وهذا دليل على أنهم شاهدوا مكانة أفضل من الدنيا ما جعلهم فى حالة استسلام».
وعبر التاريخ، كانت نهايات المضطهِدين نهايات سيئة وماتوا أشر ميتة، إذ إن الله العادل لا ينسى حق كل من ظلم، ومن أمثلة هؤلاء: «نيرون» الذى أُبعد عن السلطة وهو مايزال شابًا ثم اختفى ولم يُعثر له على جثة أو قبر، و«دومتيان» الذى قُتل فى قصره بيد أعدائه، وقرر مجلس الشيوخ الرومانى محو اسمه، و«ديكيوس» الذى سقط فى يد أعدائه وذُبح هو وابنه وكثير من جيشه، و«أُوريليان» الذى ذبحه أصدقاؤه المقربون إليه، و«دقلديانوس» الذى اعتزل الحكم ومرِِض بشدة حتى قيل إنه أنهى حياته بيديه. إن الله ضابط الكل يتأنى لكنه لا ينسى، هو يُمهل ولا يُهمل، ويسلِّم ولكن ليس إلى الانقضاء.
إلى شهدائنا نحن نفتخر بكم من أجل شجاعتكم، واحتمالكم، وصبركم، ووداعتكم، ومحبتكم، وسلامكم، وإيمانكم، فهنيئًا لكم إكليل الشهادة!!
وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى