ساعات قليلة تفصلنا عن عام 2015م. وبين نهاية وبداية أهنئكم جميعـًا ببَدء العام الجديد، مصلين إلى الله أن يكون عام سلام وخير وتقدم للمِصريين جميعـًا، ولبلادنا المحبوبة مِصر التى طالما ظلت تحمل سر الجمال فى أعماقها على الرغم مما تعرضت له من محن وشدائد عبر تاريخها. هى دائمـًا مِصر الحُلوة: حُلوة بالله الذى بارك شعبها، حُلوة بالبركات التى نالتها من الأنبياء والقديسين الذين جاءوا إليها وعاشوا على أرضها، حُلوة بلجوء العائلة المقدسة إليها، وهى أيضا حُلوة بأبنائها المخلصين المكافحين من أجل رفعة شأنها. كل عام وجميعكم بخير.
تحدثنا فى المقالة السابقة عن تقسيم مِصر إلى أربع ولايات: «آيجيبتوس»، «أُغُسطامنيكا»، «آركاديا»، «طيبة»، فى زمن الحكم الرومانى الأخير مع حلول القرن السادس الميلادى، ثم انتقلنا إلى الحديث عن شبه الجزيرة العربية ومعنى كلمة «عَرَب»، والتجارة وطرقها. وقد وصلتنا تعليقات واستفسارات كثيرة عن أصل كلمة «عَرَب»، والشعوب والحضارات فى منطقة شبه الجزيرة العربية، وهو ما جعلنى أفكر فى تقديم الموضوع باستفاضة أكثر وبالعودة إلى عدد أكبر من المراجع المتاحة لدىّ.
وبدايةً، بالبحث فى أصل كلمة «عَرَب» ومعناها وسبب إطلاقها فى آداب الشعوب القديمة، وجدنا أن كلمة «عَرَب» حتى القرون الأولى بعد الميلاد لم تكُن تعنى شعبـًا بعينه أو قومية ما أو لغة محددة، إنما كانت تشير إلى جماعة تعيش فى البادية، خاصة فى منطقة شبه الجزيرة العربية، لهذا كان بعض المؤرخين يعتبرون شبه جزيرة سيناء من العَرَب لطبيعتها الصحراوية.
معنى لفظة «العَرَب»
ظهرت كلمة «العَرَب» مع الآراميِّين، فأصل الكلمة آرامى أطلقه الآراميُّون الساكنون شرقِى الفرات، للإشارة إلى سكان غربى الفرات، إذ تشير الكلمة إلى المكان وتعنى «الغربيِّين»، إذًا لفظة «عَرَب» تعنى «غرب». ثم انتقلت الكلمة من الآرامية إلى اللغات السامية ومنها: العبرانية، والبابلية، والسريانية. ومن كلمة «عَرَب» جاءت لفظة «عرُبُو» وتعنى «غروب»، وأيضًا «مَعْرِبُو»، أى «غرب» و«مغرب» التى تحمل أيضا معنى آخر هو «خلط» و«مزج». كما استخدم الآراميُّون اسم «عرُوبْتُو» اسما ليوم «الجمعة» ويعنى يوم «العروبة»، أى يوم «الغروب»، فقد كان الأسبوع عند اليهود ينتهى بيوم الجمعة يليه السبت الذى يقدسونه، وهكذا يكون معنى يوم «الجمعة» هو «غروب الأسبوع وانتهاؤه» ليبدأ أسبوع جديد من بعد السبت.
ومن الإشارة إلى سكان غربِى الفرات الذين يسكنون البوادى اتسعت معنى الكلمة لتُطلق على كل من يعيش فى «البادية»، كما ذكر د. «جواد على» فى كتابه، فيقول إن لفظة «(عرب) تُطلق على كل من قطن البادية وعاش حياة البداوة والإعرابية والجفاف والفقر». وهكذا أصبح امتزاجا بين كلمتى «العروبة» و«البادية» بكلمة «الغرب»، فأصبحت كلمة «العرب» التى تعنى «الغرب» هى إشارة أيضا إلى «ساكنى البادية».
فى الآداب القديمة
وفى هذا نجد أن الكتابات البابلية القديمة تشير إلى كلمة «أرض العرب» أو «أرض عرب»، بتعبير «ماتوا أربى» ويُقصد بها «البادية» ومن يعيش فيها، إضافة إلى سكان غربِى الفرات.
أمّا الكتابات الآشورية، فقد حملت لفظة «عرب» منذ عام 824 ق. م.، عندما سجل الملك «شُلَمْنَصَّر الثالث/ شولمانو- أشارئد» انتصاراته على ملك دمشق الآرامى وحلفائه الأحَدَ عشَر ملكا فى «قرقر/ قرقور» عام 853 ق. م.، فيذكر أستاذ آداب اللغات السامية والدراسات الشرقية «دانيال لوكينبل» نص ما سجله الملك الآشُّورى «شُلَمْنَصَّر الثالث» ويقول فيه: «قرقر عاصمته الملكية. أنا خربتها، أنا دمرتها. أنا أحرقتها بالنار: 1200 مركبة، 10000 جمل لجندب العربى.. هؤلاء تألبوا علىَّ…»، والمقصود هنا بكلمة «عربى» بداوة أو عشيرة كانت تحكم البادية آنذاك.
وذكر الفرس لفظة «عرباية»، وتعنى «البلاد الصحراوية المجاورة لأرض فارس»، وظهر ذلك فى الكتابات الخاصة بالملك «داريوس» فى عام 486 ق. م.
فى الأدب العبرانى
وقد ذُكرت لفظة «عَرَب» فى سفر إِشَعْياء: «وَحْى من جهة بلاد العَرَب: فى الوَعْر فى بلاد العَرَب تَبِيتِينَ يا قوافل الدَّدانِيِّين»؛ وكلمة «العَرَب» يُقصد بها فى هذا النص «البادية»، وهى تبعد كليةً فى معناها عن الإشارة إلى قومية معينة كما يُقصد بها اليوم، فبلاد العرب عند إِشَعْياء النبى هى البادية التى تقع بين الشام والعراق التى يقطن بها الأعراب.
كذلك أشار «حَزْقِيال النبى» إلى التجارة بين العبرانيِّين والعرب فى زمن السبى: «العَرَب وكل رؤساء قِيدار هم تُجّار يدك بالخِرفان والكباش والأعتِدة. فى هذه كانوا تُجّارك. تُجّار شَبا ورَعْمَة هم تُجّاركِ. بأفخر كل أنواع الطِّيب وبكل حجر كريم والذهب أقاموا أسواقكِ. حُرّان وكِنَّة وعَدَن تُجّار شَبا وآشُّور وكِلْمَد تُجّارك. هؤلاء تُجّارك بنفائس، بأرْدِيَّة أسمانجونية ومُطَرَّزةٍ، وأَصْوِنَةٍ مُبرَمٍ مَعْكُومَةٍ بالحبال مصنوعةٍ من الأرز بين بضائعكِ».
وقد أطلق العبرانيُّون على «العرب» عدة أسماء فى التوراة، منها «أبناء المشرق» ويقابلها بالعبرية «بنى قدم» و«قدمونيت»، إشارة إلى إقامتهم شرقِى بلاد العبرانيِّين؛ وفى هذا يذكر الكاتب المؤرخ «جرجى زيدان»: «كانت عادة القدماء فى تسمية الأمم بمساكنهم بالنظر إلى غروب الشمس أو شروقها، ولذٰلك كان العبرانيُّون يسمون «العرب» «أهل المشرق» لأن مقامهم فى تلك البادية يقع شرقِى فلسطين».
وعُرفوا أيضا بـ«الإسماعيليِّين»، نسبةً إلى إسماعيل بن إبراهيم، خليل الله، وذُكر هذا الاسم عندما باع أبناء «يعقوب» أخاهم «يوسف» للتخلص منه: «واجتاز رجال مِديانيُّون تجار، فسحبوا يوسُِف وأصعدوه من البئر، وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفِضة. فأتَوا بيوسف إلى مِصر»؛ وهكذا كانوا يمرون بالعبرانيِّين فى قوافل تِجارية. وكانت تربطهم بمِصر عَلاقات تِجارية، إلا أن العبرانيِّين كانوا ينظرون إليهم نظرة عداء.
ومن الأسماء التى أُطلقت عليهم أيضا «أنباط»، وإن كان هذا قد جاء فى مرحلة متأخرة فى أيام المكابيِّين.
أمّا فى الكتب اليهودية الشهيرة كـ«التلمود» و«المَشَنّا»، فكلمة «عربيم» تعنى «الأعراب الذين يعيشون حياة البداوة». وذُكر عن «أيوب» أنه كان أعظم أبناء المشرق، أى البادية: «كان رجل فى أرض عَوْص اسمه أيوب. وكان هذا الرجل كاملًا ومستقيمًا، يتقى الله ويَحيد عن الشر. ووُلد له سبْعة بنين وثلاث بنات. وكانت مواشيه سبْعة آلاف من الغنم، وثلاثة آلاف جمل، وخمسمائة فدان بقر، وخمسمائة أتان، وخَدَمه كثيرون جدًّا. فكان هذا الرجل أعظم كل بنى المَشرِق».
فى الأدب اليونانى والأدب الرومانى
اشترك الرومان فى ربط لفظة «العروبة» بمعنى «البداوة»، فقد أطلق «هيرودوت» اسم «عَرَب» على البادية والبلاد التى تقع شرقِى النيل حتى الفرات. وبلاد العرب هى بلاد البدو على اختلاف لغاتهم ولهجاتهم. وقد ذكر «هيرودوت» عن مِصر أنها «لا تشبه بشىء بلاد العرب الملتصقة بها»، وأمّا شبه جزيرة سيناء فقد اعتبرها صحراء تابعة لبلاد العرب بسبب طبيعتها الصحراوية. أمّا جنوبى الجزيرة العربية، الذى يقع بين خليج فارس والبحر الأحمر، فقد اعتبره اليونانيُّون القدماء جزءًا من إثيوبيا لاختلاف طبيعته عن صحراء شبه الجزيرة العربية، وهكذا أصبحت الحبشة واليمن وضفاف خليج فارس إقليما واحدا أطلقوا عليه اسم «إثيوبيا آسيا».
وتحدثت الكتابات اليونانية واللاتينية عن العرب بأنهم الشعوب الذين أطلق عليهم الآراميُّون والبابليُّون لفظة «الغربيِّين» أو الذين أطلق عليهم العبرانيُّون كلمة «الشرقيِّين». وقد ارتبط العرب بالخيام عند «استرابون» فأطلق عليهم «سكان الخيام ورعاة الجمال»، فى حين يذكرهم «بلاين» أنهم «سكان البادية»، أى بادية سواء كانت فى الجزيرة العربية، أو الشام، أو صحراء سيناء. وهكذا تشمل الكلمة فى الأدب اليونانى والأدب الرومانى كل بادية.
فى الحضارات القديمة فى شبه الجزيرة العربية
نجد فى نصوص كتابات المنطقة الجنوبية: «مَعين»، و«قَتَبان»، و«حَضَرْمَوت»، و«سَبأ»، و«حِمْير»، وأخرى، أن لفظة «أعرب» تعنى «أعراب»، وأنها تشمل كل سكان العرب فى البادية والحضر. أمّا لفظة «عرب» فهى تعنى «الأعراب»، أى «سكان البادية»، فى حين سكان البادية كان يُطلق عليهم أسماء مدنهم وممالكهم، فيقال: «سَبأ»، و«حِمْيَر»… إلخ. فعندما يذكر السَبَئيون بعض القبائل وبَدْوها يقولون اسم القبيلة وأعرابها، فى حين أطلق الحِمْيَرِيُّون على ملوكهم: «ملك سَبأ وذا ريدان وحَضَرْمَوت ويَمْنات وإعرابهم».
كل عام ومِصر بخير و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى!