«كوكب البرية»، وقد ذكر عنه ناشرو سيرة حياته: «إن هٰذه السيرة قد بعثت تأثيرًا قويًا فى كل أرجاء العالم، وهى التى أشعلت الرغبة النسكية فى «روما» وفى كل الغرب.»؛ إنه «أنبا أنطونيوس» الشاب المِصريّ الذى ترك العالم بإرادته وهو ما يزال فى العشرين من عمره ليعيش خمسة وثمانين عامًا متوحدًا فى القفر والبراريّ، وليصير أبًا للرهبان ومؤسسًا للحركة الرهبانية لا فى «مِصر» بل فى العالم بأسره. ويذكر «البابا أثناسيوس الرسوليّ»: «حياة أنطونيوس تستحق أن تكون مثالًا ونموذجًا للرهبان فى ممارسة التداريب الروحية».
تخطت شهرة «أنبا أنطونيوس» وتأثيره أرض «مِصر» لتصل إلى «أسيا» و«أوروبا»؛ ففى عام ٣٨٦م، فى أثناء تَجوال أربعة رجال من بلاط «الإمبراطور قسطنطين» الصغير، عثروا على منزل يقع فى مدينة تقع على الحُدود الفرنسية البلچيكية تسمى «تريف» حيث يعيش بعض النساك، سالكين على خطاه ومتخذين من حياته نموذجًا لهم، كما عُثر معهم على نسخة من كتاب «حياة أنبا أنطونيوس» «للبابا أثناسيوس الرسوليّ» الذى صار تلميذًا على يديه مدة ثلاثة سنوات. ويُذكر أن الرجال الأربعة قد قرؤوا سيرة «أنبا أنطونيوس» فكان قرار اثنين منهما أن يتركا حياة الترف والقصور ويعيشا فى نسك، كما يُذكر أن سيرته قادت «أغسطينوس» إلى التوبة والنسك.
عاش «أنبا أنطونيوس» عمرًا مديدًا وصل إلى مائة وخمسة أعوام، معاصرًا سبعةً من الآباء بطاركة الإسكندرية: بَدءًا بـ«البابا دُيونِيسيوس» البطريرك الرابع عشَر،، ومرورًا بـ«البابا مكسيموس» و«البابا ثيئوناس» و«البابا بطرس خاتم الشهداء» و«البابا أرشيلاوس» و«البابا ألكسندروس»، وختامًا بـ«البابا أثناسيوس الرسوليّ» البطريرك العشرين
«أنطونيوس»
وُلد «أنطونيوس» سنة ٢٥٠م فى بلدة «قِمن العروس» فى محافظة «بنى سويف» بـ«مِصر»، لأسرة ثرية من ذوى الأملاك الكثيرة؛ وكان والداه مَسيحيَّين تقيَّين ربياه أفضل تربية فتعلم منهما أصول الحياة الصالحة. وفى سن الثامنة عشْرة، مات والديه وتركاه وحيدًا مع أخت له تدعى «ديوس». ويذكر بعضٌ أنه وقف أمام جثمان والده، مفكرًا فى أمر زوال هٰذا العالم وأمر الحياة الأبدية. وعندما بلغ العشرين، كان يفكر فى أمور الحياة وكثيرًا ما كان يفكر فى عظمة وتجرد أولٰئك الذين كانوا يبيعون كل ما لهم ويوزعونه على الفقراء والمحتاجين، حتى صادف دخوله أحد الأيام إلى الكنيسة فى أثناء قراءة الإنجيل وكان من كلمات السيد المسيح للشاب الغنيّ: «إن أردتَ أن تكون كاملًا، فاذهب وبِع أملاكك وأعطِ الفقراء فيكون لك كَنز فى السماء وتعالَ اتبعني». اعتبر «أنطونيوس» أن هٰذه الكلمات موجهة إليه، فعاد إلى أخته يُعلن لها رغبته فى بيع نصيبه وتوزيعه على الفقراء فوافقته على الأمر، فباع كل ما لديهما واحتفظ بالقليل من المال من أجل أخته مقدمًا إياه للمحتاجين.
ولم يمضِ زمن طويل حتى دخل الكنيسة مرة ثانية وسمِع كلمات السيد المسيح: «لا تهتموا للغد»، فازداد شوقه إلى حياة النسك والتوحد وعبادة الله فى البراريّ والقِفار، إذ لم تكُن الأديرة قد عُرفت بنظامها بعد، وكان كل من يرغب فى عبادة الله والوَحدة يخرج إلى مكان بعيد عن قريته. أبلغ «أنطونيوس» أخته بعزمه على ترك العالم والتفرغ للعبادة والصلاة فلم تتركه هى حتى أودعها بيتًا للعذارى، أمّا هو فانطلق نحو البرِّية للتوحد.
ارتحل «أنطونيوس» بهمة شديدة وتَوق إلى حياة الوَحدة والصلاة؛ فانطلق من قريته حتى وصل إلى القبور فعاش بها فترة، وكان قد أوصى أحد الأشخاص أن يحضر له خبزًا أيامًا كثيرة. ويذكر لنا «البابا أثناسيوس» فى سيرته: «كان «أنطونيوس» يريد أن يكون أمينًا فى حياة الصلاح التى اختارها وقتًا طويلًا، ومع تواضعه الشديد كان متى التقى توجيهًا صغيرًا من الآخرين يظهر حماسة كبيرة له».
انطلق «أنطونيوس» بعد ذٰلك نحو أحد الجبال حيث وجد حصنًا مهجورًا منذ زمن طويل على جانب النهر الآخر فعبر إليه وسكن فيه. وهٰكذا عاش عشرين عامًا، منفردًا فى حياة الصلاة والوَحدة، يحيا على الماء، والخبز الذى كان يأتيه مرتين فى العام فيحفظه ستة أشهر كما هى عادة أهل «طيبة» الذين كانوا يمكنهم أن يحفظوا الخبز مدة عام. كان يأتيه معارفه ويقفون عند الباب طلبًا لرؤياه. وفى ذٰٰلك الزمان لم يكُن يخرج من الحصن ولم يكُن أحد ليراه. وعندما كان يرغب أحد فى رؤياه: من أولئك الذين يعرِفونه، أو من الذين سمِعوا بسيرته ويريدون السير على خطاه، أو من اشتاقوا أن يكون «أنطونيوس» مرشدًا لهم؛ كانوا يقفون خارج الحصن وهو يجيب عن تساؤلاتهم، ثم يرحلون.
حياة «أنبا أنطونيوس»
اهتم فى حيلته النسكية بأهمية العمل فقد ذكر أنه كانت تهاجمه أفكار الملل والضجر، فيصلى إلى الله الذى أظهر له ملاكًا على شكل إنسان يرتدى رداءً طويلًا وعلى رأسه قُلُنْسُوَة ـ غطاء للرأس مرسوم عليه ١٢ صليبًا، وكان يجلس يضفر الخوص ثم يقوم ليصلى، وبعدئذ يعود للعمل مرة أخرى، ويكرر الأمر. ثم قال الملاك له: «اعمل هٰذا وأنت تستريح». ومنذ ذٰلك اليوم وقد عُرف زيّ الرهبنة، كما صار العمل أحد أسس الحياة الرهبانية. وهٰكذا انتبه «أنطونيوس» للعمل، واهتم بالصلاة وتنفيذ الوصايا من محبة ورحمة وابتعاد عن أفعال الشر بالفعل والعمل، لا بالحفظ العقليّ فقط. فقيل عنه: «وتندهش لصبره ومثابرته فى الأصوام ونومه على الأرض (بفراش من القش)، وتَعجَب لحفظه لجَلَده وطول أناته ووداعته، وكان يسعى للكمال باذلًا كل الجُهد فى إمكانية السمو بنفسه، وكان يصلِّح كل شيء فى نفسه بنفسه، وقليلًا ما كان يخرج من وَحدته».
وقد ذكر عن حياته أنه كثيرًا ما كان يواصل الليل بالنهار فى الصلوات، وكان يأكل مرة واحدة فى اليوم بعد غروب الشمس وأحيانًا كل يومين ومرات كثيرة كل أربعة أيام. ولم يكُن له طعام سوى الخبز والمِلح، ويشرب الماء فقط. وفى نومه، كان يحمل الخوص أو القش ليتغطى به.
وفى هٰذه الحياة الملائكية، انجذبت نفوس كثيرين إلى محبة «أنطونيوس» الذى كان يعزى الحزانى والمتألمين، ويزرع المحبة بين المتخاصمين، وكان يعلِّم باقتناء أعمال البِر والمحبة للجميع، والعطاء للفقراء، والإيمان وعدم الغضب، وأن يتمسك الجميع بالفضيلة. وهٰكذا صار مصدر سعادة لكل من يلقاه، وبحياته جذب كثيرين إلى حياة الوَحدة، فرحل عدد كبير إلى البرِّية ليسلكوا فى حياة الرهبنة. وهٰكذا قامت الأديرة والقلالى على الجبال. وصار «أنطونيوس» أبًا مرشدًا لمن جاؤوا إليه من أجل الرهبنة. وقد كتب عنه «بلاديوس» أسقف هيلينوبوليس، فى «بيثينية» أواخر القرن الرابع: «كان ذا عقلية وقادة، وحكيمًا، يُدرك حقيقة الناس بالفراسة بحيث كان الذين يأتون إليه يمتلئون دهشة إذ يجدون أنه أدركهم على حقيقتهم على الرغم من عزلته وابتعاده عن الناس… كذٰلك كان «أنبا أنطونيوس» يمتاز بالصبر والجَلد فى المناقشة فيُصغى إلى كل ما يقال له ويجيب عنه بكل تُؤَدة واتزان…».
اشتياقه إلى الاستشهاد
وتعرضت «مِصر» لأعنف اضطهاد شهدته على مر التاريخ: إذ فى زمن اضطهاد الإمبراطور «مكسيميانوس» كانت دماء الشهداء لا تتوقف على أرضها؛ وفى أثناء ذٰلك اشتاق «أنبا أنطونيوس» أن ينضم إلى صفوف الشهداء فغادر ديره متوجهًا إلى «الإسكندرية» و… وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى!.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ