أهنئكم جميعًا بعيد الميلاد الذي يحتفل به مسيحيو الشرق هذا العام في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من شهر كيهك (السابع والثامن منشهر يناير).
وحين نتحدث عن الميلاد، فإننا نتحدث عن السلام. ولا أجد سوى أصداء تلك الأنشودة الخالدة طوال الأزمان التي ترنمت بها الملائكة في ليلة الميلاد، مبشرة أولئك الرعاة الساهرين، معلنة للبشرية: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة”؛ لتظل رسالة الميلاد “رسالة السلام”. وما أحوج عالمنا اليوم إلى رسالة السلام! وخاصة منطقة الشرق الأوسط بكل ما تشهده من أحداث وحروب.
إن رسالة السلام هي تلك الرسالة القديمة قدم الإنسانية، المتجددة كل العصور، الرسالة التي جذبت إليها أنظار البشر منذ بَدء التاريخ الإنساني، الرسالة التي تظل الأمل والحُلم الذي يسعى نحوه البشر حتى نهاية الأيام. وفي ذلك السعي الذي لا يتوقف، يجب أن ننتبه أن لاتحقُّق لسلام دون محبة: محبة الإنسان لله صانع السلام من أعاليه، محبة الإنسان للبشر الذين يشاركونه الحياة، محبة الإنسان للحياة؛ هذه المحبة بأنواعها كلها مجتمعة هي ما تحُثه وتجذبه جذبا صوب تحقيق السلام. ولأجل ذلك نجد أن السيد المسيح في أثناء حياته وخدمته على الأرض قد علَّم بالمحبة لله ولكل إنسان، فحين سُئل عن الوصية العظمى التي تقود إلى الحياة الأبدية، أجاب بكل وضوح: “تحب الرب إلٰهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هٰذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء”. إن محبة الإنسان للبشر جميعًا لتُعد أولى الخطوات التي تقود إلى السلام؛ وإن لم يتمكن البشر من محبة إخوتهم في الإنسانية، فكيف يمكنهم تحقيق السلام؟! كيف السلام وسط قلوب تملؤها أحقاد وضغائن؟! لقد فقد “قايين” سلامه حين اندست الأحقاد والكراهية والغيرة في قلبه؛ وامتدت يداه لتقتُل أخاه. واليوم لن يرى العالم سلامًا، وقلوب وعقول لا يملؤها إلا مشاعر وأفكار تخلو من قيم الإنسانية!!
والسلام أيضًا لا يتحقق بكلمات وشعارات جوفاء ترددها الأفواه،في وقت هي بعيدة عن القلب والسلوك! فالكلمات يمكنك أن تسمع أصداءها، لكنك لن تلمس لها نتائج إيجابية في الحياة إن لم تتحول أحرفها إلى أفعال حقيقية تُرى رؤية الشمس في كبد السماء. أنت تؤمن بالسلام؛ اسعَ نحو تحقيقه بأعمالك في حياتك. يقول الكتاب: “لٰكن يقول قائل: «أنت لك إيمان، وأنا لي أعمال» أرِني إيمانك بدون أعمالك، وأنا أريك بأعمالي إيماني”؛ إن ما نؤمن به حقيقةً هو ما يبدو جليًّا في أعمالنا. لذلك علينا أن ندرك أن لدينا دورًا بالغ الأهمية نحو تحقيق السلام، السلام الذي يحتاج حتمًا إلى تفهم وعمل جاد حتى يمكن إقراره، والذي يتطلب حوارًا بين أطرافه، وفَهمـًا عميقًا من كل طرف للآخر، واحترامًا لإنسانيته التي وُهبت له من الله.
وأود أن أوضح أن الدعوة إلى السلام لا تعني انتهاء الخلافات بين البشر، أو تنازل الإنسان عن أفكاره أو معتقداته أو حقوقه، بل كما قال أحدهم: “السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر في الوجود. السلام يعني أن نحُل هٰذه الاختلافات بوسائل سلمية: بالحوار، بالتعليم، بالمعرفة، بالطرق الإنسانية”. نعم، على البشر أن يتعلموا حل أزماتهم دون عنف، أن تكون لهم مرونة الحياة على الرغم من اختلافاتهم.
إن السلام هو رسالة الميلاد وسط ظلمة الحياة وقسوتها، ولَيظل رسالة الميلاد في كل عام، رسالة نتذكرها ونضعها نصب أعيننا من أجل حياة أسمى للكل. إن ذكرى ميلاد السيد المسيح تظل دائمًا وأبدًا أصداء الدعوة إلى تمجيد الله، ورسالة سلام وفرح ترتفع بالبشرية إلى أعظم صورها وأرقى مشاهدها: “وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل”.
كل عام وجميعكم بخير.ولْنرفع قلوبنا بالصلوات إلى ملك السلام: أن يهب السلام لبلادنا الحبيبة “مِصر”وللشرق الأوسط ولسائر العالم؛ فما أجمل أقدام المبشرين بالسلام! و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ