تحدثت المقالة السابقة عن رجوع اليهود إلى “أورُشليم” (القدس) من السبي في أيام “كُورَش” ملك فارس، الذي أصدر مرسومًا بمنح المسبيين من اليهود العودة لبلادهم وببناء بيت الرب في “أورُشليم”. وقد كان الرجوع الأول (٥٣٨ ق. م.) بقيادة “شِيشْبَصَّر (زَرُبّابل)”. وما إن بدؤوا في وضع أساس للهيكل حتى تعرضوا للمؤامرات والحيل، لٰكن بناء الهيكل اكتمل بعد قرابة عشرين عامًا. ثم جاء الرجوع الثاني (٤٥٨ ق. م.) بقيادة “عزرا الكاهن” الذي اهتم بتعليم الشريعة للشعب العائد بعد فترة سبي امتدت ٧٠ عامًا، وجمع أسفار الكتاب المقدس ورتبها. أما الرجوع الثالث (٤٤٥/٤٤٤ ق. م.)، فقد كان بقيادة “نَحَمْيا” النبيّ – أيام “أَرْتَحْشَسْتا” الملك – وبنى سور “أورُشليم” المتهدم في ٥٢ يومًا. ويأتي ذكر “فلسطين” بعد ذٰلك في حقبة “الإسكندر الأكبر”، ثم زمان “البطالمة” الذي كانت “فلسطين” فيه تحت الحكم المِصريّ.
وفي سنة ١٩٨ ق. م. هزم “أنطيوخُس الثالث” – الملقب “أنطيوخُس الكبير” – جيش “بطليموس” في معركة “بانياس”، بعد أن حاول عدة مرات أنيستولي على “فلسطين” ليحكمها بدلاً من البطالسة؛ لٰكنه هُزم على يد الرومان سنة١٩٠ ق. م.: “وَسَمِعَ يَهُوذَا بِاسْمِ ٱلرُّومَانِيِّينَ أَنَّهُمْ ذَوُو ٱقْتِدَارٍ عَظِيمٍ، وَيُعِزُّونَ كُلَّ مَنْ ضَوَى إِلَيْهِمْ، وَكُلَّ مَنْ جَاءَهُمْ آثَرُوهُ بِمَوَدَّتِهِمْ، وَلَهُمْ شَوْكَةً شَدِيدَةً … وَكَسَّرُوا أَنْطِيُوكُسَ ٱلْكَبِيرَ مَلِكَ آسِيَا، ٱلَّذِي زَحَفَ لِقِتَالِهِمْ وَمَعَهُ مِئَةٌ وَعِشْرُونَ فِيلاً وَفُرْسَانٌ وَعَجَلاَتٌ وَجَيْشٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَقَبَضُوا عَلَيْهِ حَيًّا، وَضَرَبُوا عَلَيْهِ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يَمْلِكُونَ بَعْدَهُ جِزْيَةً عَظِيمَةً وَرَهَائِنَ وَوَضَائِعَ مَعْلُومَةً، وَأَنْ يَتْرُكُوا بِلَادَ ٱلْهِنْدِ وَمَادَايَ وَلُودَ وَخِيَارَ بِلاَدِهِمْ، وَأَخَذُوهَا مِنْهُ وَأَعْطَوهَا لِأُوْمِينِيسَ ٱلْمَلِكِ” (المكابيين الأول ٨: ١ و٦-٨). أمّا عن أحوال “أورُشليم” في ذٰلك الوقت، فقد ذكر المؤرخ اليهوديّ “يوسيفوس”: “ثم قوي أمره وعظُم شأنه حتى استولى على كثير من الأمم … فداخله العُجْب والكبرياء، وطغى وتجبر، وأمر بأن تُعمل الأصنام على صورته، ووجّه بها إلى جميع مملكته، وأمر الناس بعبادتها والسجود لها؛ فأجابته الأمم كلها إلى ذٰلك، أمّا اليهود فامتنعوا من ذٰلك ولم يقبلوه.”. وقد سعى قوم أشرار باليهود لدى الملك “أنطيوخُس”، فاشتد غضبه على اليهود وتحرك صوب “أورُشليم”، فقتل وسبى حتى إن سكان المدينة هربوا إلى البلاد والبراريّ والجبال وأقاموا بها، وتعرض من بقي منهم لاضطهادات كثيرة وهلك منهم كثيرون. وقد أمر الملك “أنطيوخُس” رئيس الكهنة بالمشاركة في احتفالات تقديم الذبائح النجسة، وحاول منع ممارسة الختان، في محاولة لصبغ مدينة “أورُشليم” بالصبغة اليونانية. فجاءت ثورة اليهود المكابيين ردًّا على تلك الأحداث.
وبعد موت “أنطيوخُس الثالث”، حدث تغيير في أيام “أنطيوخُس الخامس” الذي سمح بإعادة العبادة في الهيكل كسابق عهدها. وفي تلك الحقبة، تمكن “يهوذا المكابيّ” من الانتصار على عدد من القواد السورييين، ثم رجع إلى “أورُشليم” حيث أعاد هدم جميع المذابح التي أقامها “أنطيوخُس الثالث” وأزال الأوثان، وأمر بتطهير الهيكل، ثم بناء المذبح وإعادة الخدمات في الهيكل، وأصبح ذٰلك عيدًا لدى اليهود هو “عيد التجديد”. وبنى “يهوذا المكابيّ” أسوارًا عالية وبروجًا حصينة علي “جبل صهيون” وأقام فيه جيشًا للحراسة. وسنة١٦٣ ق. م.، زحف الملك “أنطيوخُس الخامس” مصطحبًا القائد “ليسياس” صوب “أورُشليم” لاستعادتها، فتمكَّنا من هزيمة “يهوذا المكابيّ” وعادت “أورُشليم” تحت الحكم السِّلوقيّ. وظلت المعارك لقمع ثورة المكابيين حتى قُتل “يهوذا المكابيّ” سنة١٦١ ق. م.. وفي سنة ١٥٢ ق. م.، تمكن “يوناثان” أخو “يهوذا” أن يصبح رئيس الكهنة ونائب الملك في “اليهودية”؛ وهٰكذا تمكن من تجديد مدينة “أورُشليم” وإعادة بناء قلعة الهيكلورفع الأسوار. وظلت الحروب تتوالى على المدينة حتى تدخل الرومان! و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ