تحدثت مقالة سابقة عن مدينة “أورُشليم” في زمان “البطالمة” تحت الحكم المِصريّ، ثم عرضَت لحكم “أنطيوخُس الثالث”، وامتناع اليهود عن عبادة الأصنام التي فرضها الملك آنذاك، ثم غضب الملك وقتل سكان “أورُشليم” وسبيهم إلى جانب اضطهادات كثيرة ما أثار غيرة اليهود وخاصة عند تدنيس هيكلهم، فقاموا بثورة المَكابيِّين بقيادة “يهوذا المَكابيّ” الذي انتصر على عدد من قوات الجيوش، ثم طهَّر الهيكل وبنى مذبحه وأعاد الخدمات به؛ وصار ذٰلك عيدًا لليهود يسمى “عيد التجديد”. ويذكر “يوسيفوس” المؤرخ اليهوديّ أنه في أثناء ذٰلك أرسل الروم كتاب عهد إلى “يهوذا المَكابيّ” قالوا فيه: “من الشيخ والثلاث مئة والعشرين المدبرين الذين معه إلى »يهوذا بن مَتَّثْيا» صاحب ولاية جميع اليهود: سلام عليكم. قد بلغنا ما أنتم عليه من شدة البأس والشجاعة والقيام في الحروب، فسَّرنا ذٰلك ورغِبنا أن تكونوا معنا، وأصحاب لنا، وقد بلغنا ما وافقكم عليه أنتيوخوس ملك اليونانيين، لأنهم قد أساؤوا إليكم فلا تشكّوا ولا ترتابوا فينا، فنحن خير لكم من اليونانيين، لأنهم جاروا عليكم وأكثروا من ظلمكم، وقد عمِلنا على المسير إلى «أنطاكية» لمحاربة من فيها من اليونانيين، وقد أردنا أن نعلم منكم مع من تختارون أن تكونوا لنعمل بحسب ذٰلك.”.
ثم قدَّموا إليهم صورة عهد بين الطرفين لمؤازرة بعضهم بعضًا ضد أيّ عدو يواجه أيًّا منهما؛ ويذكر “يوسيفورس” أن “يهوذا” قبِل وأُبرم العهد ودام بينهم وبين الروم مدة طويلة. ثم جاء “يوناثان المكابيَّ” (١٦٠-١٤٣ ق. م.)، بعد موت أخيه “يهوذا”، وتمكن من الانتصار على أعدائه، وجدد مدينة “أورُشليم” وأعاد بناء قلعة الهيكل ورفع الأسوار.
سمعان (شمعون) المَكابيّ (١٤٣-١٣٥ ق. م.) تولَّى القيادة من بعد أخيه “يوناثان المَكابيّ”، وقد بلغ مجد المكابيين وسلطتهم ذروتهما في عهده؛ فقد حصل على رئاسة الكهنوت، وتمكن من السيطرة على حصن “جازِر” و”قلعة أورُشليم”، واستطاع هزيمة “ديمتريوس بن سلفانوس” (يطلق عليه أيضًا اسم “أنتيوخوس”) الذي كان يقيم بأنطاكية، فكف عن محاربة اليهود: “واطمأن العبرانيون في أيام «شمعون» وسكن روعهم” . لٰكن صهره “تَلْماي” قتله في أثناء وليمة أعدت له، وقبض على زوجته وابنيه. ثم تولى الأمر من بعده ابنه يوحانان (يوحنا) المسمى “هركانوس”.
يوحنا هِركانوس بن شمعون (١٣٤-١٠٤ ق. م.) وعندما علِم بما فعله “تلماي” هرب إلى “غزة”، فتبِعه “تَلْماي”، لٰكن أهل غزة دافعوا عنه فرحل إلى “داجون” ومعه أم “يوحنا هِركانوس” وإخوته. أما “يوحنا هِركانوس” فقد عاد إلى “أورُشليم” وتولى مهام أبيه. وعندما حاول “يوحنا هِركانوس” إنقاذ أمه وإخوته، هدد “تَلْماي” بإلقائهم من سور المدينة إن لم يكف “يوحنا هركانوس” عن محاربته، فرحل “يوحنا هركانوس” عنه لئلا يكون سببًا في موتهم، وبعد رحيله قتل “تَلْماي” أم “يوحنا هِركانوس” وإخوته ثم هرب بعيدًا.
وفي السنة الأولى من حكمه تعرضت مدينة “أورُشليم” لحملة جديدة من “ديمتريوس بن سلفانوس” لٰكنه لم ينجح في دخولها فرحل بقربها؛ حتى جاء “عيد المظال” فأبدى “ديمتريوس” إجلاله وتوقيره لبيت الله، فسأله اليهود في الصلح؛ وهٰكذا آلت الأمور إلى السلم والتعاون بينهما. وقد قيل عن “يوحنا هِركانوس” أنه غزا جميع الأمم التي تجاور اليهود، فتمكن منها وأظهرت هي له الطاعة. ثم أرسل “يوحنا هركانوس” إلى الروم يسأل تجديد العهد، فأجابوه إلى ذلك بكتاب عهد، وأطلقوا عليه ملك اليهود، وبهذا صار هو أول من دُعي ملكًا على اليهود منذ عودتهم من السبي. وهٰكذا شهِدت مدينة السلام كثيرًا من الحروب، وأيضًا نعِمت بفترات هدوء، حتى ثارت روح التحزب في البلاد، وبدأ المكابيون في احتضار بموت “يوحنا هركانوس”، وصارت “أورُشليم” مسرحًا لأبشع الأحداث بين الملوك للاستيلاء على الحكم، حتى زحف “بومبي” على “أورُشليم” ليأخذها عَنوة سنة ٦٣ ق. م، و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ