تحدثت المقالة السابقة عن القائد الروماني “بُمبي” الذي وضع “هِركانوس” و”أنتيبطرس” على مدينة “أورُشليم”، ومعهما القائد الرومانيّ “كينانوس”، وعن التمردات التي وقعت في بلاد “الشام” والعَُجَْم، ودور كل من “كينانوس” و”كرسوس” و”كسلو” في ردها مرة أخرى لطاعة “الروم”.
وفي تلك الأثناء، بزغ نَجم القائد الروماني “يوليوس قيصر” في “روما” وطلب من “الشيخ” حاكم “رومية” ومدبري البلاد أن يقيموه ملكًا، فأبَوا قائلين: “إن هٰذا ليس بممكن! فقال لهم: لماذا؟ أجابه الشيخ والذين معه: إن أسلافنا الأولين وآباءنا المتقدمين كانوا قد تحالفوا أنهم لا يملِّكون عليهم ملكًا بسبب ما جرى من «تركوين» الملك، وجعلوا ذٰلك عهدًا لازمًا لهم ولأولادهم على ممر (مر) الأجيال. ومنذ ذٰلك الزمان وإلى هٰذه الغاية لم يعودوا أن يلقبوا أحدًا ممن وَلِي أمرهم «ملكًا»، ولم يطلب ذٰلك أحد ممن فتح الفتوح وغلب الملوك. وقد مضى «بُمبيوس الكبير» إلى المشرق فغلب اثنين وعشرين ملكًا وفتح مدنًا كثيرة، وأطاعه «اليهود» مع عظم أمرهم وشدة بأسهم؛ فما طلب ما طلبت أنت! ولا يجوز لنا أن نجيب لما فيه حِنْث وعُدول عن تأكيد العهود والإيمان ونقض وصايا السلف وشروطهم؛ لما في ذٰلك من الخطر والمضرة”؛ فما كان من “يوليوس قيصر” إلا أنه طرد حاكم “رومية” عنها، وقتل المئة والعشرين شيخًا مدبري أمور البلاد، وأعلن نفسه ملكًا ولُقب “قيصر”؛ وحين علِم “بُمبي” بما حدث، توجه من “مِصر” إلى “رومية” فتحاربا الجيشان وانتصر “قيصر” وقتل “بُمبي”، واستولى على جميع بلاد “الروم” والبلاد الخاضعة لهم.
ثم توجه “قيصر” إلى بلاد “سوريا” ليتمكن منها أولاً قبل الذَّهاب إلى “مِصر” للقضاء على قوة قواد “بُمبيوس” بها. فما كان من “هِركانوس” حاكم “اليهودية” إلا أن أرسل جيشًا بقيادة “أنتيبطرس” لينضم إلى الجيش المتجه إلى “مِصر”، في محاولة من “هِركانوس” للتقرب إلى “قيصر”. وقد أظهر “أنتيبطرس” شجاعة وقوة فائقة حتى حقق النصر وفتح “مِصر”. وحين علم “قيصر” بذٰلك قدَّم “أنتيبطرس” على كل المقربين إليه، وجعله على جيوشه في حروبه بالشرق، ثم أذِن له في العودة إلى “أورُشليم”. ويذكر “يوسيفوس”: “واستقامت أمور «هِركانوس» في «أورُشليم» وعظُم شأنه، وسار في الناس أحسن السيرة وأجملها، وكان خيّرًا فاضلاً، إلا أنه كان جبانًا متخلفًا عن لقاء الحروب وتدبير الجيوش، يميل إلى الدَّعة (الاستقرار والراحة والترف) ويَأثَُر (يختار أو يُفَضِّل) السكون والهدوء، وقد عُرف بذٰلك وطُبع عليه واشتُهر فيه”.
أتاح ضعف “هِركانوس” الفرصة “لأنتيبطرس” أن يستولي على حكم بلاد “اليهودية”، فجعل ابنه الأول “فيلو” واليًا على “أورُشليم”، و”هِيرُودُس” ابنه الثاني على “جبل الجليل”. وهٰكذا كان الحاكم الحقيقيّ في أورُشليم “أنتيبطرس” وأبناءه. أمّا “هِيرُودُس”، فقد ذاع اسمه وقوِي أمره بعد أن امتثل لأمر “قيصر”، وقضى على جماعة من “اليهود”، يقودها شخص يُدعى “حَزْقِيال”، كانت تهجم على بلاد “السريان” فتنهبها وتقتُل أهلها؛ ما أثار حفيظة “اليهود” وطالبوا “هِركانوس” بمحاكمة “هِيرُودُس”، لٰكن “هركانوس” أنقذه من أيديهم.
وفي سنة ٤٤ ق. م. قُتل “يوليوس قيصر” بعد تآمر مجلس الشيوخ الرومانيّ عليه. وفي السنة التالية (٤٣ ق. م.). تآمر رؤساء اليهود على قتل “أنتيبطرس” وتمكنوا من دس السُّم له عن طريق شخص يُدعى “ملكيا”؛ ومات بالفعل. فلما بلغت تلك الأنباء ابنه “هِيرُودُس” أراد الانتقام لأبيه، فجاء إلى “أورُشليم” لقتل “ملكيا”، فمنعه أخوه “فيلو” لئلا تُثار فتن واضطرابات بالمدينة، مشيرا عليه باستخدام الحيلة. وقد تمكَّنا من قتل “ملكيا” بمساعدة قائد الرومان.
أمّا “روما”، فقد حكمها “أُغسطس قيصر” ابن شقيق “يوليوس قيصر”. ثم توجه قائد الجيوش الرومانية، ويدعى “أنطونيوس”، إلى “سوريا” و”مصر” حيث تزوج من الملكة “كليوباترا”. وكان “أنطونيوس” هٰذا محبًّا لـ”هِيرُودُس” وأخيه وأبيهما، فرفض ما تقدم إليه من شكاوى في “هِيرُودُس”. وقد حاول “أنتيغونوس”، ابن شقيق “هِركانوس”، الاستيلاء على مدينة “أورُشليم” بمساعدة ملك الفرس فخرَّبا المدينة بالقتل والنهب. ثم تمكن ملك الفرس من خداع “هِركانوس” و”فيلو” واصطحبهما، وفي بلاد “الشام” ألقى القبض عليهما فقتل “فيلو” نفسه، في حين قُطعت أُذن “هِركانوس” وسار مع ملك الفرس إلى بلاده. أما “أنتيغونوس” فقد ملك على “اليهود”. أسرع “هِيرُودُس” إلى “روما” حيث التقى “أُغسطس قيصر” و”أنطونيوس” وأخبرهما بما حدث، فاستقر رأيهما على أن يقام “هِيرُودُس” ملكًا على “اليهود”، الذي في أيامه وُلد السيد المسيح. و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ