تحدثت المقالة السابقة عن حكم “أَرْخِيلاوُس” ابن الملك “هِيرُودُس الكبير”، والعائلة المقدسة التي سارعت إلى “مِصر” هربًا من بطش “هِيرُودُس” الذي أراد قتل السيد المسيح وهو طفل، فصارت “مِصر” ملجأ “العائلة المقدسة” من وجه ذٰلك الطاغية وأقامت بها حتى موته؛ ثم عادت إلى “الناصرة” بعدًا عن “أَرخِيلاوُس” الذي ملك من بعده “هِيرُودُس أنطيغوس” (“هِيرُودُس أنتيباس”).
أما عن مدينة أورُشليم في تلك الأيام، فقد كانت تئن من أحلك عصر مر بها!! فعلى المستوى السياسي كانت البلاد خاضعة للحكم الرومانيّ بعد – كما ذكرنا في مقالات سابقة – دخول القائد الرومانيّ “بومبي” إلى “أورُشليم” سنة ٦٣ ق. م.، ووجود حاكم للبلاد يُعَينه قيصر روما، فبات اليهود تحت نير الرومان ووطأة حكمهم القاسي يئنون، فأخذوا يترقبون مجيء “المَسِيّا المنتظَر”. إلا أن “المسيح المنتظر” في عقيلتهم لم يكُن إلا منقذًا سياسيًّا يُعِيد إليهم مملكة “داوُد” في العالم. وقد ذكر المؤرخ George Sarton: “لم يكُن العصر الذي وُلد فيه المسيح عصرًا ذهبيًّا …. بل عصر دم ودُموع …. عصر قسوة ووحشية”.
وقد سادت المجتمع آنذاك حالة أخلاقية لا تختلف عن واقعه السياسيّ المرير، إذ امتلأت المدينة بالفساد والرذيلة!!! حتى إن المؤرخ الفيلسوف الأمريكي Durant قال عن تلك الحالة الأخلاقية المتردية التي امتدت إلى أماكن العبادة نفسها: “إن الفضيلة كانت تتنحى جانبًا عن مكانها من خلال أبواب الهياكل نفسها”!!! وإلى جانب الفساد الأخلاقيّ، امتلأت البلاد بأفكار وفلسفات عديدة متناقضة كالفلسفة الرومانية التي انتشرت في “روما”، ومنها مدرسة “السُّوفِسْطائيِّين”. أيضًا عُرفت “الفلسفة الرُِّواقية” التي تأسست سنة ٣٠٠ ق. م. والتي تؤمن بأُلوهة الكائنات، وبأن سعادة الحياة هي وفق الطبيعة؛ واهتمت بقوة الإنسان العقلية باعتبارها ما يميّز البشر. ومن الفلسفات أيضًا “الفلسفة الأَبيكُورية” و”الفلسفة الشَّكِيّة البيرُّونية”.
ومن جهة الحالة الدينية في ذٰلك العصر، فقد عجَّت البلاد بالطوائف والفِرَق، مثل طائفة “الفريسيين”، وهم من مُعلمي الشريعة – ومنهم الكهنة والعَلْمانيُّون، هدفهم المحافظة على نواميس الشريعة المُوسَوية وقوانينها، متمسكين بحرفيّتها، وبالتقاليد والعوائد التي تسلموها ممن سبقوهم. ونجد “الكتبة”، وهم طائفة تهتم بكتابة الشريعة وتفسيرها. ولا ننسى طائفة “الصَّدوقيين” الذين كانوا على خلاف دائم مع “الفَرِّيسيِّين”، وكان كل فريق منهما يحاول أن يستميل حاكم البلاد ويكسبه إلى صفه. وظهر أيضًا “الغيوريون”، وهم فرقة يهودية دينية تُعد شريحة متطرفة من “الفَرِّيسيِّين”، وتنظيمًا عسكريًّا وحزبًا سياسيًّا عمِل على مقاومة الاحتلال الرومانيّ، فرفضوا تبعية “اليهود” للرومان، ولم يعترفوا بتملك قيصر روما على “اليهود”، لأنهم رأَوا أن في هٰذا خيانة لله ملك “إسرائيل”. وهٰكذا سادت في عصر السيد المسيح طائفية مختلفة العقائد والتوجهات، زادت الشعب تِيهًا وتشتيتًا، فوق تشتت يطغى بفعل أحوال سياسية طاحنة، وظروف اقتصادية لا تعرف رحمة، لتتشوه الحياة بغلظة تطول “مدينة السلام”، تاركة شعبًا متخبطًا في ظلمات الطريق إذ ذكر الكتاب عن السيد المسيح: “وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا.”.
لذٰلك لا مدعاة لأي عجب حين نسمع كلمات السيد المسيح: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ! لِأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، فَلَا تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلَا تَدَعُونَ ٱلدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا ٱلْكَتَبَةُ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ ٱلْمُرَاؤُونَ! لِأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ ٱلْأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذٰلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ”، بل تهتز القلوب وتكاد تنخلع بمناجاته الخالدة لـ”مدينة السلام”: “يَا أُورُشَلِيمُ، يَا أُورُشَلِيمُ! يَا قَاتِلَةَ ٱلْأَنْبِيَاءِ وَرَاجِمَةَ ٱلْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكِ كَمَا تَجْمَعُ ٱلدَّجَاجَةُ فِرَاخَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا!”.
و.. وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسي