تحدثت المقالة السابقة عن “أورُشليم” (القدس) في أيام ملوك يهوذا بعد انفصالهم عن “إسرائيل”، وتعرض المدينة للسلب والنهب في كل مرة يبتعد فيها الملك والشعب عن الله وشريعته، ويعبدون الأوثان وآلهة الأمم المصنوعة بأيدي البشر، إلى أن رفض الله الشعب تمامًا وكان الحكم بالسبي. فقد أرسل الله إليهم عددًا من عبيده الأنبياء، يحذرهم من عواقب ضلالهم وتركهم شريعة السماء؛ وكان من أولٰئك الأنبياء “إرميا النبي”، الملقَّب بالنبيّ الباكي لكثرة ما ذرفه من دموع من أجل توبة الشعب وعودته، ولما أعلنه له الله من خراب مزمَع للمدينة المقدسة “أورُشليم” التي صارت محلاًّ لكل أعمال الشر والرجاسة؛ وهٰكذا تمت نبوءات “إرميا النبيّ” وسُبيت المدينة وشعبها بيد “نَبُوخَذْنَاصَّر” ملك بابل.
السبي الأول (٦٠٦ ق. م.)
كان ملك يهوذا في ذٰلك الزمان هو “يَهُوياقيم الملك”، وقد حدث أنه في السنة الثالثة من ملكه ذهب “نَبُوخَذْنَاصَّر” ملك بابل إلى “أورُشليم”، فيذكر الكتاب: “فِي ٱلسَّنَةِ ٱلثَّالِثَةِ مِنْ مُلْكِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكِ يَهُوذَا، ذَهَبَ نَبُوخَذْنَاصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَحَاصَرَهَا. وَسَلَّمَ ٱلرَّبُّ بِيَدِهِ يَهُويَاقِيمَ مَلِكَ يَهُوذَا مَعَ بَعْضِ آنِيَةِ بَيْتِ ٱللهِ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَرْضِ شِنْعَارَ إِلَى بَيْتِ إِلٰهِهِ، وَأَدْخَلَ ٱلْآنِيَةَ إِلَى خِزَانَةِ بَيْتِ إِلٰهِهِ.” (سفر دانيال ١: ١-٢). كذٰلك أحضر الملك من بني إسرائيل ومن نسل الملك ومن الشرفاء فتيانًا لا عيب فيهم، حِسان المنظر، ممتلئين حكمة ومعرفة وعلمًا، وقدرة على العمل بقصر الملك.
السبي الثاني (٥٩٧ ق. م.)
كان “يَهُوياكين” يملك على “أورُشليم”، واستسلم لملك بابل “نَبُوخَذْنَاصَّر” عندما حضر إليها بعد حصار جيشه لها: “فَخَرَجَ يَهُويَاكِينُ مَلِكُ يَهُوذَا إِلَى مَلِكِ بَابِلَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَعَبِيدُهُ وَرُؤَسَاؤُهُ وَخِصْيَانُهُ، وَأَخَذَهُ مَلِكُ بَابِلَ فِي ٱلسَّنَةِ ٱلثَّامِنَةِ مِنْ مُلْكِهِ. وَأَخْرَجَ مِنْ هُنَاكَ جَمِيعَ خَزَائِنِ بَيْتِ ٱلرَّبِّ، وَخَزَائِنِ بَيْتِ ٱلْمَلِكِ، وَكَسَّرَ كُلَّ آنِيَةِ ٱلذَّهَبِ ٱلَّتِي عَمِلَهَا سُلَيْمَانُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ فِي هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ، كَمَا تَكَلَّمَ ٱلرَّبُّ. وَسَبَى كُلَّ أُورُشَلِيمَ وَكُلَّ ٱلرُّؤَسَاءِ وَجَمِيعَ جَبَابِرَةِ ٱلْبَأْسِ، عَشَرَةَ آلَافِ مَسْبِيٍّ، وَجَمِيعَ ٱلصُّنَّاعِ وَٱلْأَقْيَانِ (الحدادين). لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ إِلَّا مَسَاكِينُ شَعْبِ ٱلْأَرْضِ.”. (سفر الملوك الثاني ٢٤: ١٠-١٤). ثم وضع ملك بابل ملكًا على “يهوذا” هو عم “يَهُوياكين”، وأطلق عليه اسم “صِدْقِيَّا”.
السبي الثالث (٨٦٨ ق. م.)
تمرد “صِدْقِيَّا الملك” على ملك بابل فأرسل في حصار المدينة، وبعد أن أُرهقت المدينة بالحصار والجوع، هرب الملك ورجال الحرب، إلا أنه قُبض عليه وأُخذ إلى “نَبُوخَذْنَاصَّر” الذي كان أرسى قاعدة جيشه في “رَبْلة” بسوريا: “وَكَلَّمُوهُ (أي ملك بابل) بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ (أي على صِدْقِيَّا). وَقَتَلُوا بَنِي صِدْقِيَّا أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَلَعُوا عَيْنَيْ صِدْقِيَّا وَقَيَّدُوهُ بِسِلْسِلَتَيْنِ مِنْ نُحَاسٍ، وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بَابِلَ.” (سفر الملوك الثاني ٢٥: ٧)؛ وفي تلك المرة حُرق الهيكل وبيت الملك وكل بيوت العظماء، وهُدّمت أسوار المدينة، وكان خرابها كاملاً. وقد عيَّن “جَدَلْيا” حاكمًا على الباقين في البلاد، ومعه حامية عسكرية بابلية. وقد ترك الحاكم للنبيّ “إرميا” أن يختار إما الذهاب إلى “بابل” وإما البقاء في “يهوذا” ففضّل أن يسكن مع الشعب المتبقي. ثم قُتل “جَدَلْيا”، وقررت بقية الشعب أن تلجأ إلى “مِصر”، وأخذت معها “إرميا النبيّ” الذي استُشهد فيها.
ظل الشعب الإسرائيليّ مسبيًّا مدة ٧٠ سنة، حتى استولى “كورش” ملك فارس على “بابل” وقضى على الإمبراطورية البابلية عام ٥٣٩ ق. م.؛ فأصدر مرسومًا بمنح المسبيين من اليهود العودة إلى بلادهم وبناء بيت الرب في “أورُشليم”: “وَفِي ٱلسَّنَةِ ٱلْأُولَى لِكُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ كَلَامِ ٱلرَّبِّ بِفَمِ إِرْمِيَا، نَبَّهَ ٱلرَّبُّ رُوحَ كُورَشَ مَلِكِ فَارِسَ، فَأَطْلَقَ نِدَاءً فِي كُلِّ مَمْلَكَتِهِ وَكَذَا بِٱلْكِتَابَةِ قَائِلاً: «هٰكَذَا قَالَ كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ: إِنَّ ٱلرَّبَّ إِلٰهَ ٱلسَّمَاءِ قَدْ أَعْطَانِي جَمِيعَ مَمَالِكِ ٱلْأَرْضِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ ٱلَّتِي فِي يَهُوذَا. مَنْ مِنْكُمْ مِنْ جَمِيعِ شَعْبِهِ، ٱلرَّبُّ إِلٰهُهُ مَعَهُ وَلْيَصْعَدْ»”. (سفر أخبار الأيام الثاني ٣٦: ٢٢-٢٣). و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لاينتهي!