بدأ حديث المقالة السابقة عن القديس “البابا كيرِلِّس السادس” ومثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث” – في تَذكار رحيلهما هذا الشهر – اللذين كانا يحملان تفردًا في شخصيتيهما، وعمقًا في علاقتهما بالله. ولقد جمعهما كثير من الأمور والأحداث والسمات، فأخذنا الحديث عن ميلادهما في أغسطس، ونياحتهما في مارس، واتسامهما بالأمانة والإخلاص في حياتهما العملية، ومحبتهما العميقة لله التي قادتهما إلى حياة الرهبنة.
رهبنتهما
بدأ “عازر يوسف” طريق الرهبنة بـ”دير السيدة العذراء بوادي النطرون”، الشهير بـ”دير البَرَموس”، حيث رُسم راهبًا سنة ١٩٢٨م باسم “مينا البَرَموسيّ”، ثم قَسًّا في ١٩٣١م، ثم اتجه إلى “دير القديس أنبا شنوده رئيس المتوحدين” بسوهاج سنة ١٩٣٤م هربًا من رسامته مِطرانًا للغربية والبحيرة! وبعد عودته إلى ديره توحد بمغارة بالصحراء تبعد عنه مسافة ساعة سيرًا على الأقدام، ثم توحد بطاحونة بمصر القديمة. وقد ملكت حياة الوَحدة قلبه حتى إنه ذكر ذات مرة لتلميذه القمص “روفائيل آڤا مينا”، في احتفال افتتاح الكاتدرائية المَرقسية الذي حضره عدد من الشخصيات العالمية الشهيرة: “ولا يوم من أيام الطاحونة”!!! ولا تُنسى عبارته الشهيرة التي صرح بها حين رُسم بطريركًا: “كنت أود أن أعيش غريبًا وأموت غريبًا، لٰكن لتكُن إرادة الله”.
أما “نظير جيد”، فقد سلك طريق رهبنته بـ”دير السيدة العذراء بوادي النطرون”، المعروف بـ”دير السريان”، سنة ١٩٥٤م، ورُسم باسم الراهب “أنطونيوس السرياني”، ثم كانت رسامته قَسًّا سنة ١٩٥٨م، ثم انطلاقه إلى مغارة تبعد عن الدير ثلاثة كيلومترات ونصف الكيلومتر ليحيا حياة الوَحدة ويتعمق في علاقته بالله، ثم انتقل إلى مغارة أبعد على مسافة اثني عشر كيلومترًا من الدير، كان يقضِّي فيها أسابيع دون أن يرى وجه إنسان! ومما ذكره عن أيام توحده: “وكانت تلك الأيام أسعد أيام حياتي وأقربها إلى اللَّه”. وفي سبتمبر من سنة ١٩٦٢، استُدعي أبونا الراهب “أنطونيوس السرياني” للقاء “البابا كيرلس السادس” لأمر مهم. فكان بعد انتهاء المقابلة، وأبونا أنطونيوس يستعد للمغادرة، أن وضع “البابا كيرلس” يديه على كتفه ورسمه أسقفًا عامًّا للتعليم الكنسيّ باسم أنبا “شنوده”، وقال له: “لم يَعُد لك الحق في أن تترك هٰذا المكان”!! ومما ذكره “البابا شنوده” عن ذٰلك الأمر: “ووجدت نفسي في وضع لا أستطيع الفرار منه! وتذكرت في ذٰلك الحين عبارة قالها إرميا النبي: «عرفتُ، يا رب، أنه ليس للإنسان طريقه، ليس لإنسان يمشي أن يهدي خطواته»”.
أبوتهما ورعايتهما
اهتم “القمص مينا المتوحد” ببناء مسكن للطلبة، وكان مرشدًا للشباب والخدام في ذٰلك الوقت، يشملهم برعايته وأبوته. كذٰلك خدم “نظير جيد” بمدارس الأحد في عدد من الكنائس، وأدار أحد ملاجئ الأيتام بشبرا، وحين صار أسقفًا عامًّا للتعليم الكنسيّ أخذ يلقي المحاضرات على الشعب ولم يفتر عن التعليم والإرشاد.
ومنذ أن دُعي هٰذان العملاقان إلى تولي رعاية الشعب، كانا يحرِصان على خدمة الرعية بكل أمانة وأبوة متناهية. فقد كان القديس “البابا كيرلس السادس” يصلي كل مساء وصباح، ثم يستقبل كل شخص مستمعًا إليه ومصليًا من أجله؛ ويخرج الكل من عنده ممتلئين سلامًا وفرحًا، وقد حُلت مشكلاتهم أو وجدوا إجابات عن تساؤلاتهم! لقد كان أبًا وراعيًا يهتم بكل نفس، محبًّا للجميع حتى لمن أساؤوا إليه، مصليًا لأجلهم وصافحًا عن إساءاتهم. كذٰلك كان “البابا شنوده الثالث” يتسع قلبه للكل وبخاصة الضعفاء والمتألمون والمحتاجون؛ فأذكر تلك الساعات التي كان يقضِّيها بين أبنائه بعد اجتماعاته ولقاءاته، متحدثًا إليهم، مصليًا من أجلهم، منصتًا لشكاواهم ومشكلاتهم وآلامهم، مجتهدًا أن يساعدهم بكل ما أوتي من قوة ووسيلة. وكان قداسته يضع احتياجات الفقراء أُولى أولوياته، فكان يرأس بنفسه أعمال لجنة البر بـ”القاهرة” و”الإسكندرية”، إلى جانب اهتمامه بعلاج الحالات المرضية وبمتابعة تطوراتها الصحية وما آلت إليه. لقد اختار كلاهما أن يتعبا من أجل إراحة الناس، غير عابئين براحتهما، في أبوة باذلة حانية.
حب الوطن
أحب القديس “البابا كيرلس السادس” الوطن واهتم بكل ما مر به من أزمات وبخاصة بعد عُدوان ١٩٦٧م، كما اهتم بقضية “القدس”. وكثيرًا ما ظهرت وطنيته في رسائله الباباوية والبيانات التي أصدرها في اللقاءات العديدة التي شارك فيها من ندوات ومؤتمرات شعبية من أجل “مِصر”. أما في قلب “البابا شنوده الثالث”، فقد عاشت “مصر” وطنًا يحمله أينما ذهب؛ فلا تُنسى لقداسته زياراته إلى الجبهة ومؤازرة قوات جيشنا الوطني الباسلة في ١٩٧٣، ومشاركاته في عديد من المؤتمرات المحلية والدولية التي عُقدت من أجل قضايا الوطن، إلى جانب اهتمامه بقضية “القدس” حتى لُقب بـ”بابا العرب”.
إن الحديث عن الحياة الحافلة بالفضائل والخِدْمات للقديس “البابا كيرِّلس السادس” ولمثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث” ليصعب أن تصوغه أحرف وكلمات!! وفي الحقيقة يعوزنا الوقت لمجرد الاقتراب من حياة هٰذين “الراعيين الأمينين”؛ اللذين باركت القديسة السيدة العذراء خدمتهما بتجليها بكنيستها بحي الزيتون ١٩٦٨م، وبكنيسة الشهيدة دميانه ببابا دبلو بحي شبرا ١٩٨٦م.
و… والحديث في مصر الحلوة لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ