بدأت كنائس الشرق منذ الإثنين الماضي “صوم أهل نينوى”، المعروف أيضًا باسم “صوم يونان”، ومدته ثلاثة أيام، ليعقبها احتفال بفطره يوم الخميس. و”يونان” – ومعنى اسمه “حمامة” – هو “يونان بن أَمِتّاي” من سِبط “زَبُولُون” أحد أسباط بني إسرائيل الاثني عشَر، من مدينة “جَتّ حافَِر” التي تبعد ثلاثة أميال عن مدينة “الناصرة”، جاء نبيًّا (ما بين ٧٩٣-735 ق. م.) إلى مملكة “إسرائيل” المنقسمة عن مملكة “يهوذا” في عهد “رَحُبْعام الملك” ابن “سليمان الملك الحكيم”، وعاش قرابة مئة عام.
أما فطر هذا الصوم، الذي يُحتفل به غدًا، فهو تَذكار لعبور “يونان” النبيّ من داخل الحوت الذي ابتلعه إلى الخارج، وعبور أهل “نينوى” من شرورهم وعقوبتها إلى نيل الصفح والمغفرة بتوبتهم جميعًا؛ وكلاهما يمثل الانتقال من الموت إلى الحياة. وبالكتاب المقدس سفر يعرض لنا قصة يونان وأهل نينوى. وقد عرَفت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن تصوم ثلاثة أيام “صوم أهل نينوى” في عهد البابا أبرآم (“ابن زرعة”)، الثاني والستين في بطاركة الكرازة المَرقسية، حيث يسبق الصوم الكبير بأسبوعين، وهو صوم “العودة إلى الله” بترك الشر والخطيئة والسير في طريق التوبة والفضيلة.
الله محب البشر
وعلى مدى التاريخ الإنسانيّ منذ خلقة الإنسان، ومحبة الله لخليقته تتردد أصداؤها فيها وفي الأحداث التي تمر بحياة البشر؛ وما قصة “يونان”و”أهل نينوى” إلا تَجَلٍّ من تجليات هذه المحبة الإلهية الفياضة. لقد أحب الله “يونان” النبيّ على الرغم من هربه من الرسالة التي ائتمنه الله عليها وحمَّله بها: وهي أن يذهب إلى أهل نينوى وينادي فيها بإنذارات الله إليهم ونتائج شرورهم. لٰكن “يونان” قرر الهروب من الله!!! فما كان من محبة الله له إلا أنها اجتذبته مرة ثانية وردته إلى رسالته النبوية ودوره تجاه أولئك البشر السالكين في دروب التيه والبعد عن الله. ففي أثناء هروب “يونان”، اتجه إلى مدينة “تَرشيش” بحرًا، فهبت رياح عاصفة وهاج البحر حتى تعرضت السفينة للغرق!! ثم طُرح في البحر، فأعد الله حوتًا عظيمًا ابتلعه، ليظل في جوفه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ!!! وأمسى الحوت طوال الأيام الثلاثة مكانًا للصلاة!!! لقد أخذ “يونان” يرفع من جوف الحوت قلبه إلى الله بصلاة عميقة قال فيها: “دعوتُ من ضيقي الرب، فاستجابني. صرختُ من جوف الهاوية، فسمعتَ صوتي … حين أَعيَت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب، فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك …”؛ وكأن الحوت شعر بحرارة صلاة “يونان” فما كان منه إلا أن قذفه إلى البَر قرب مدينة “نينوى”!! وأسرع “يونان” بدخولها معلنًا إنذارات الله إلى أهلها بسبب خطاياهم وشرورهم.
أما محبة الله لأهل نينوى، فقد تجلت في إرساله إليهم نبيًّا يحمل رسالة من خمس كلمات: “بعد أربعين يومًا تنقلب نينوى”!!! إن الله لا يرغب موتا أبديًّا للخاطئ، بل يسعى لخلاص البشر من أجل حياة أبدية سعيدة لهم في السماء، فهو: “الذي يريد أن جميع الناس يَخْلُصون، وإلى معرفة الحق يُقْبِلون.”. وما إن سمِع أهل نينوى بمناداة “يونان” حتى سارعوا في توبة جماعية عظيمة، بالصوم والصلوات والتذللات والندم والدموع والتضرعات، فنظر الله إلى عمق توبتهم وتحنن عليهم من فيض شفقته حتى قال لـ”يونان”: “أفلا أُشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي يوجد فيها أكثر من اثنتَي عشرة رِبوة من الناس الذين لا يَعرِفون يمينهم من شِمالهم، وبهائمُ كثيرة؟”!!
إن التوبة هي الطريق الذي يجب على الإنسان أن يسلكه من أجل الفوز بمراحم الله، ولذا يقول “مار إسحاق السرياني”: “التوبة هي باب الرحمة المفتوح للذين يريدونه”، ويقول “القديس أكليمَندُس الإسكندريّ” عن حنان الله: “لا يذكر استحقاقاتنا الرديئة، بل لا يزال يتحنن علينا ويحثنا على التوبة”. والتوبة، لا لحظات أو حالة تعاش وتمضي، بل هي حياة كاملة: يعيش فيها الإنسان حتى لحظة انتقاله من هذا العالم.
كل عام وجميعكم بخير، و… والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ