“كُن مطمئنًّا جدًّا جدًّا، ولا تفكر كثيرًا، بل دَع الأمر لمن بيده الأمر”، “ربنا موجود، كله للخير، ومصيرها تنتهي”: عبارات حفرتها ذاكرة التاريخ في قلوب المِصريين جميعًا؛ ولِمَ لا وقائلاها هما “رجل الصلاة” القديس “البابا كيرِلُّس السادس”، و”الذهبي الفم” لعصرنا الحديث مثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”؟! وفي الواقع، لا يمكن أن يُغض البصر عن هاتين الشخصيتين الفريدتين بعد طاقات الحب العميقة الصافية التي غمَرا بها كل من التقاهما أو تعامل معهما، بل ما زالا حتى يومنا هذا يعضدان بمحبتهما ويساندان بصلواتهما كل نفس تتشفع بهما في السماء.
وقد احتفل المَسيحيون في التاسع من مارس بعيد نياحة القديس “البابا كيرِلُّس السادس”، كما سيحتفلون في السابع عشَر من الشهر نفسه بذكرى نياحة “البابا شنوده الثالث”. لٰكن لم يكُن شهر انتقال هاتين العلامتين البارزتين هو فقط ما يجمعهما، بل كثير من الأمور! الميلادان لقد احتضن شهر أغسطس ميلاد “عازر يوسف عطا” (البابا كيرِلُّس السادس) في 8/8/1902م، وذٰلك ببلدة “طوخ النصارى” في “دمنهور” حيث عاشت أسرته أولاً، ثم بـ”الإسكندرية” ليحصل فيها على “البكالوريا”، مثلما احتضن الشهر نفسه ميلاد “نظير جيد” (البابا شنوده الثالث) في 3/8/1923م، وأيام طفولته الأولى بقرية “سلام” بمحافظة “أسيوط”، لينتقل إلى “دمنهور” حيث عاش مع شقيقه الأكبر “روفائيل جيد”؛ ثم تتعدد انتقالاته ما بين “دمنهور” و”أسيوط” و”بنها” ليكون المستقر بـ”القاهرة”. وهٰكذا تلألأ شهر أغسطس بميلاد هٰذين النورين. الأمانة والإخلاص جمع كلاًّ من القديس “البابا كيرلس السادس” ومثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث” صفتا الأمانة والإخلاص في كل أمور حياتهما. ففي سنة ١٩٢١، التحق “عازر يوسف” بشركة “كوك شيبنج للملاحة” بمدينة “الإسكندرية”، وسرعان ما سطع نجاحه المهنيّ وشُهد له بالأمانة والإخلاص؛ ما جعله محل ثقة رؤسائه وتقديرهم. كذٰلك عُرف عن “البابا شنوده الثالث” النجاح والتفوق نتيجة جِديته وأمانته وإخلاصه في كل ما أُسند إليه منذ طفولته حتى عمله مدرسًا؛ وعلى سبيل المثال مُنح إنجيلاً مُذهَّبًا حين كان بالصف الرابع الابتدائيّ، حيث تمكن من حفظ المزمور “السماوات تُحدِّث بمجد الله والفَلَك يخبر بعمل يديه …”، أحد المزامير الطويلة والصعبة. كذٰلك كان “نظير” الأول في دراستيه الثانوية والجامعية، وأيضًا أثناء كلية اللاهوت حتى إنه عُين أستاذًا بها، وفي الجيش بـ”مدرسة المشاة”. محبة لله كانت محبة الله تشغل فكر كل من “عازر يوسف” و”نظير جيد”، حتى إنهما بدأا حياة الخُلوة والتعبد لله وهما ما يزالان يخوضان حياة العالم قبل رهبنتهما! فقد حوَّل “عازر يوسف” غرفته إلى قلاية (مكان تعبُّد الراهب) يمارس فيها الصلوات والقراءات الروحية وحياة التأمل، حتى إن أحد الآباء الرهبان ذكر أن “عازر” في تلك الغرفة قد أعد نفسه تمامًا لحياة الرهبنة!! أما “نظير”، فقد ذكر هو عن اشتياقه المتنامي إلى الرهبنة: “كان الاتجاه الديني قد بدأ ينمو في داخلي ويتعمَّق على نحو متزايد، فيما كنت لا أزال طالبًا في الجامعة، وكنت أُعدّ نفسي لهٰذا الأمر إعدادًا مسبقًا. وكان عديد من قصائدي الشعرية يدور في فَلك الدين … كنت أحب زملائي وأمرح معهم، لكن داخلي كان مغمورًا بشوق كبير إلى حياة أوسع وأعمق من إطار حياتي الجامعية”. وهٰكذا تركا كلاهما العالم واختارا طريق الرهبنة قبل أن يتكرسا كاملاً فيها لله. رُسم “عازر يوسف” راهبًا بدير السيدة العذراء بوداي النطرون الشهير بـ”دير البَرَموس”، في فبراير من سنة 1928م، أما “نظير”، فقد رُسم راهبًا بدير السيدة العذراء بوادي النطرون” المعروف بـ”دير السريان”، في يوليو من سنة ١٩٥٤م … و… وما يزال الحديث عن “العظيمان في البطاركة” ممتدًّا، و… والحديث في مصر الحلوة لا ينتهي!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ