تحدثت المقالة السابقة عن “أورُشليم” (القدس) في أثناء مُلك “داود النبيّ”، واتخاذه إياها عاصمةً لإسرائيل. أما “سليمان النبيّ” فقد بنى في “أورُشليم” الهيكل وبيت الملك وأقام حولها سورًا. ثم انقسمت المملكة في أيام “رَحُبْعام بن سُلَيمان” بعد أن سمِع لمشورة الأحداث تاركًا مشورة الشيوخ الحكماء، فصارت إلى قسمين: “اليهودية” لسبط “يهوذا” ولنصف سبط “بنيامين”، و”إسرائيل” للتسعة الأسباط الباقية والنصف الآخر من سبط “بنيامين”؛ أما “أورُشليم” فأصبحت عاصمة “اليهودية”.
ولم يثبت “رَحُبْعام” في عبادة الله، بل اتكل على ذاته وقوته وتحصيناته وترك شريعة الله، فسمح الله بتأديبهم إذ أرسل “شِيشَق” ملك مصر لمحاربتهم: “وفي السنة الخامسة للملك رَحُبْعام صعِد شِيشَق ملك مِصر على أورُشليم، لأنهم خانوا الرب …” (أخبار الأيام الثاني ١٢: ٢). وحين هجم “شِيشَق” على “أورُشليم”، استولى على مدنها المحصنة، وعلى خزائن الهيكل وخزائن بيت الملك، وعلى أتراس الذهب التي عمِلها “الملك سُلَيمان” وصنع عوضًا عنها أتراسًا نُحاسًا. و”شِيشَق” ملك “مِصر” المذكور هنا هو فرعون “نَخْو” الذي غزا إسرائيل للاستيلاء على العرش العاجيّ الذي لزوج ابنته “سُلَيمان”، وقد حصل عليه بالفعل إلى جانب ما سلبه من “الهيكل” و”بيت الملك”. أما بقية “إسرائيل” المنشقة بقيادة “يَرُبْعام”، فقد حادت تمامًا عن شريعة الله وعبادته مرتدة إلى عبادة الأوثان؛ وخشِي “يَرُبْعام” أن يرتد الشعب عنه إذا ما صعِدوا إلى الهيكل لتقديم العبادة إلى الله فصنع لهم آلهة ليعبدوها.
ثم توالت الملوك على “اليهودية” وعاصمتها “أورُشليم”، فمنهم من كان يحفظ شريعة الله ويرد الشعب إلى عبادته، ومنهم من كان يرتد عن عبادة الله. وصارت مدينة “أورُشليم” مسرحًا لأحداث عديدة، فنقرأ عن الملك “يَهُوشافاط” الذي قام بعديد من الإصلاحات ورد الشعب إلى الله وشريعته، في حين ضل الملك “يَهُورام” فتعرضت المدينة للهجوم: “وأهاج الرب على يَهُورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعِدوا إلى يهوذا وافتتحوها وسبَوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضًا، ولم يبقَ له ابن إلا يَهُوآحاز أصغر بنيه.” (أخبار الأيام الثاني ٢١: ١٦-١٧) . كذٰلك الملكة “عَثَلْيا” الشريرة، والدة “الملك أَخَزْيا”، أبادت النسل الملكي واغتصبت حكم البلاد: “فلما رأت عَثَلْيا أُم أَخَزْيا أن ابنها قد مات، قامت فأبادت جميع النسل الملِكي. فأخذت يَهُوشَبَعُ بنتُ الملك يورام، أختُ أَخَزْيا، يوآشَ بن أَخَزْيا وسرِقته من وسَط بني الملك الذين قُتلوا، هو ومرضعتَه من مُِخدع السرير، وخبأوه من وجه عَثَلْيا فلم يُقتل” (الملوك الثاني ١١: ١-٢). ثم كان مقتل “عَثَلْيا” وحكم “يوآش”. كذلك حارب ملك آرام وملك إسرائيل كلاًّ من “يهوذا” و”أورُشليم”، وتمكَّنا من الاستيلاء على “أورُشليم” ونهبها وتهديم سورها.
وظلت مدينة “أورُشليم” مسرحًا للأحداث المتناقضة من إصلاحات وعودة لعبادة الله واتباع الشريعة السماوية، إلى تعرضها للحروب والنهب والتحالف مع الشر وترك عبادة الله!!! وفي تلك الأثناء كان الله يرسل عبيده الأنبياء لرد قلوب البشر إليه وعبادته، لٰكن الشعب لم يسمع لهم، حتى تنبأ “إرميا النبيّ” بالمصير الذي سوف تؤول إليه المدينة من خراب وسبي بسبب تركهم الله وعبادة آلهة الأمم، فقد جال في شوارع المدينة منبئًا بحكم الله عليها وخرابها: “فقال الرب لي: «من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض. لأني هٰأنٰذا داعٍ كل عشائر ممالك الشمال، يقول الرب، فيأتون ويضعون كلُّ واحد كرسيّه في مدخل أبواب أورُشليم، وعلى كل أسوارها حواليها، وعلى كل مدن يهوذا. وأقيم دعواي على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخَّروا لآلهة أخرى، وسجدوا لأعمال أيديهم …” (إرميا ١: ١٤-١٦)؛ إلا أن كلماته قوبلت بالغضب والازدراء من الملك والبلاط الملكيّ. إلى أن سُبيت المدينة بيد “نَبُوخَذْنَصَّر” ملك بابل على ثلاثة مراحل، ونُهبت كل كنوزها، وسُبي سكانها الأغنياء وأصحاب المراكز، ثم حُرقت وهُدِّم سورها؛ ولم يبقَ بها سوى الفقراء الذين عمِلوا بالفلاحة و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!
الأسقف العام
رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ