تحدثت المقالة السابقة عن سبي “أورُشليم” (القدس) بيد “نَبُوخَذْنَاصَّر” ملك “بابل”، واستحضاره إلى قصره فتيانًا لا عيب فيهم ومن نسل الملك والشرفاء ليعملوا به. ثم كان أن حُرق الهيكل وبيت الملك وكل بيوت العظماء، وهُدّمت أسوار المدينة وخُربت. أما أفراد الشعب الذين تبقَّوا في الأرض، فقد قرروا اللجوء إلى “مِصر” آخذين معهم “إرميا النبيّ”، وقد استُشهد فيها. وبعد أن دام السبي سبعين سنة، انتهى بإصدار “كُورَش” ملك فارس مرسومًا بمنح المسبيين من اليهود العودة لبلادهم وبناء بيت الرب في “أورُشليم”.
الرجوع الأول (٥٣٨ ق. م.)
عندما سمح ” كُورَش” ملك فارس لليهود بالعودة إلى “أورُشليم” لبناء بيت الرب، حث عدد من كبار اليهود والكهنة واللاويين (خدام بيت الرب) على الإسراع بالرجوع إلى “أورُشليم” وبناء الهيكل مرة ثانية، وأمر بتقديم التبرعات إلى العائدين لـ”أورُشليم” بقيادة “شِيشْبَصَّر (زَرُبّابل)”، إضافة إلى ما قدمه “الملك كُورَش” من آنية الهيكل: “فَقَامَ رُؤُوسُ آبَاءِ يَهُوذَا وَبَنْيَامِينَ، وَٱلْكَهَنَةُ وَٱللَّاوِيُّونَ، مَعَ كُلِّ مَنْ نَبَّهَ ٱللهُ رُوحَهُ، لِيَصْعَدُوا لِيَبْنُوا بَيْتَ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي فِي أُورُشَلِيمَ. وَكُلُّ ٱلَّذِينَ حَوْلَهُمْ أَعَانُوهُمْ بِآنِيَةِ فِضَّةٍ وَبِذَهَبٍ وَبِأَمْتِعَةٍ وَبِبَهَائِمَ وَبِتُحَفٍ، فَضْلاً عَنْ كُلِّ مَا تُبُرِّعَ بِهِ. وَٱلْمَلِكُ كُورَشُ أَخْرَجَ آنِيَةَ بَيْتِ ٱلرَّبِّ الَّتِي أَخْرَجَهَا نَبُوخَذْنَاصَّرُ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَعَلَهَا فِي بَيْتِ آلِهَتِهِ، أَخْرَجَهَا كُورَشُ مَلِكُ فَارِسَ عَنْ يَدِ مِثْرَدَاثَ ٱلْخَازِنِ (مسؤول خزائن الملك)، وَعَدَّهَا لِشِيشْبَصَّرَ رَئِيسِ يَهُوذَا.” (عزرا ١: ٥-٨)؛ وقد زاد عدد العائدين على ٤٢ ألفًا. وما إن وصل العائدون إلى “أورُشليم” حتى بدؤوا في وضع أساس للهيكل، لٰكنهم تعرضوا للمؤامرات والحيل عدة مرات لإيقاف بناء الهيكل، لٰكنه اكتمل بعد قرابة عشرين عامًا. وكانت عودة اليهود إلى “أورُشليم” هي عودة من السبي فقط دون ملك إذ ظلوا تحت حكم “ملك فارس” الذي كان يقيم عليهم واليًا.
الرجوع الثاني (٤٥٨ ق. م.)
جاء رجوع المسبيين الثاني بقيادة “عزرا الكاهن”، حيث عاد معه ما يزيد على ١٧٠٠ نفس. وقد اهتم “عزرا” بتعليم الشريعة للشعب العائد بعد فترة سبي طويلة، وبجمع أسفار الكتاب المقدس وترتيبها.
الرجوع الثالث (٤٤٥/٤٤٤ ق. م.)
قاد تلك المجموعة من العائدين “نَحَمْيا” النبيّ، ولم يكُن لهم عدد معلوم. وقد سمح “أَرْتَحْشَسْتا” الملك لـ”نَحَمْيا” ببناء سور “أورُشليم” المتهدم؛ وبُني في ٥٢ يومًا مع أنه لاقى معارضات كثيرة. وعادت لمدينة “أورُشليم” حصانتها بعد قرابة ١٤٢ عامًا من خرابها.
وبعد رجوع اليهود من السبي وبناء هيكل “أورُشليم” وإقامة سورها، لا يمدنا التاريخ بقدر كافٍ من المعلومات عنها إلى ما يقارب قرنًا من الزمان. ثم يأتي ذكر “فلسطين” تقريبًا سنة ٣٣٢ ق. م. حين دخلها “الإسكندر الأكبر”، وبعد موته وقعت بين حكم البطالمة في “مِصر” والسَّلوقيين في “أنطاكية”.
“أورُشليم” والبطالمة
وفي سنة ٣٢١ ق. م.، غزا “فلسطين” الحاكم البطلمي “بطليموس سُوتِير”، واستولى على “أورُشليم”، وأسر عددًا كبيرًا من اليهود وأحضرهم إلى “مِصر” حيث سكنوا، وظلت “أورُشليم” بعيدة عن الاضطرابات في تلك الحقبة. وفي ٢١٧ ق. م.، زار “بطليموس الرابع” (Philopator) “هيكل أورُشليم” بعد انتصاره علي “أَنْطِيوكُس الثالث” في معركة “رافِيا”؛ وقد حاول دخول “قدس أقداس الهيكل” – الذي لا يدخله إلا رئيس الكهنة مرة واحدة في السنة بحسب شريعة “موسى النبيّ” – لٰكنه لم يستطِع، وعاد إلى “الإسكندرية” وهو حانق على اليهود أشد الحنق.
و… وما يزال حديث “القدس” يأخذنا، والحديث في “مصر الحلوة” لا ينتهي!